وجه على الجدار ...بقلم هيثم الأمين / تونس



وجه على الجدار
ــــــــــــــــــــــــــ
لا أعرف صاحب الصورة التي ظهرت، فجأة، على الجدارْ
رغم أنّ أمّي تصرّ على أن لا أحد في الصّورة
و أنّ كلّ الموضوع رطوبة في الجدار !
سألتها:
هل تبوّل الجدار على نفسه
أم هذه دموع الجدار؟ !
أمّي صارت تشعل البخور عند الصورة
و تفتح النافذة لتلعق الشمس الجدارْ
و الجدار كان يتأوّه
كلّما مرّرت الشمس لسانها على جسده
و الصورة صارت تتّضحُ أكثر
و أنا مازلتُ لا أعرف صاحب الصورة على الجدارْ !!
هو، حتما، وجه رجلْ؛
وجه لا حدود لهُ مع تجاعيد كثيرة
و أنا ظننته، في البداية، وجه جدّي
فالموتى، أيضا، لا حدود لوجوههم
و لكنّ صور جدّي القديمة لم تكن تشي بوجود ندبة على وجهه !
أمّي،
سرّا،
كانت تقف أمام الصورة و تثرثر معها كثيرا !!
لهذا ظننت أنّ الصورة قد تكون لحبيب عبر أمّي و لسبب ما لم ينجبني !!
و لكنّي سمعتها تقول للوجه:
"راك بتهبّل الولد، لو كنت شيطان أعوذ بالله منّك"
للوجه ابتسامة عريضة
كأنّه يسخر من شيء ما
أو منّي
و عينه الوحيدة فيها الكثير من البكاء المختنق !
و أنا
لم أصدّق المزهريّة
التي أخبرتني بأنّ هذا الوجه هو وجه الفرحْ !
فمزهريّتنا التي لم تعانق الورد يوما
كانت تعني من الكآبة
و من مغص حادّ بسبب كثرة ما فيها من قطع نقديّة صغيرة
و من الدّبابيس و من مفاتيح أقفال لا تصلح لشيء.
أبي،
الذي لم ير الصّورة قطْ
و العاجز عن الحركة منذ عشرة أعوام، قال:
ربّما هذا وجه الموت
و هو يستعدُّ لحقني بحقنة الرّحمة
ليخلّصني من كلّ هذا العذاب.
و لكنّ الوجه لم يكن بشعا
و لم يكن له دبّوس عظيم
و لا حبل ليسحب الرّوح، خلفه، من قدمها العرجاء
و أنا لا أظنّه وجه الموت.
الجدار لم يقل كلمة واحدة
و كلّما سألته عن صاحب الصورة
غيّر مجرى الحديث
و حتّى المرآة الوحيدة في بيتنا،
التي تمتهن العرافة
و التي كانت تنبئني أنّي سأصير رجلا أصلعا،
كانت تكتفي بابتسامة خفيفة و لا تقول شيئا كلّما سألتها عنه !!!
كآخر ما يمكنني فعله،
لأنّي أكره الأشياء الغامضة التي تسخر من شيء ما و منّي،
قرّرت أن أطلي الجدارْ !
جرّبتُ أنواعا و ماركات كثيرة من الطّلاء
و ألوانا كثيرة جدا
حتّى تلك التي لا أستطيع تمييزها بسبب عماء الألوان الجزئيّ الذي أعاني منه
و مع هذا
لم أطمس الصورة
و لم أعرف صاحبها !
منذ أيّام، ما عدتُ أهتم؛
أكتفي بإلقاء التحيّة على صاحب الوجه كلّ صباح،
أجلس أمامه لأشرب قهوتي التي لا يرتشفها معي و هذا أمر جيّد،
و أثرثر معه كثيرا رغم شروده الدائم
و رغم أنّه لا يحدّثني
و هذا جعلني أظنّ أن الوجه لرجل أخرس...
البارحة،
ثرثرت معه كثيرا جدا
حتّى أنّي أخبرته أنّي حزين جدا
و بأنّي وحيد جدا
و بكيتْ...
هذا الصّباح،
لم يكن الوجه على الجدار!!
هو، أيضا، لم يحتملني
و رحلْ....
وجه على الجدار ...بقلم هيثم الأمين / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 18 مارس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.