النّهر الأحمر ..هيثم الأمين / تونس



النّهر الأحمر

ـــــــــــــــــــ

عندما تُمطرُ في الخارج

يستيقظ طفل، داخل قلبي، ويبدأ بالبكاء!.

يبكي

ويلتهم قِطَعَ عُمُرِهِ جافّة

دون أن يغمسها في قليل من الفرح

أو يرشّ عليها ضحكات مشاغبة...

يبكي

وهو يوزّع برد أصابعه على صور في ألبوم قديم

ولا يمسحُ 

ما سال من مخاط الأيام 

عن وجهه...

بينما فتاة جميلة،

في مكان آخر من قلبي،

ترسم على جدرانه وعلى ابتسامتها الخفيفة

حقول ذرة ناضجة،

سماوات زرقاء،

حصّادين

وأعراسا

ثمّ ترسم، وسط الذّرة، خيمة؛

تفرش الخيمة برسائل حبيبها المعطّرة بكلمات الحب،

تعلّق أحلامها على مشاجب من أهازيج،

تزرع أفراحها المؤجّله في وعود قديمة

وتنتظرها أن تكبر و تزهر 

وتحت الوسائد

تخبّئ قبلات حبيبها وأحضانه

حتّى لا تسرقها الصّبايا العائدات من تعب الحقول! 

عندما يعلو دويّ الرّعد في الخارج

تُصاب قطّة بيضاء،

تنام قرب المدفأة، 

في قلبي،

بالذّعر..

و"الكانيش" الذي تربّيه جارتي السّبعينيّة

يدسّ رأسه الصّغيرة تحت فستان جارتي و ينبح

فتقهقه هذه الأخيرة

وهي تتذكّر كلّ أولئك الذين عبروا

من  تحت فستانها

إلى جنائزهم أو إلى لياليهم الباردة...

أمّا الطّفل الذي يلتهم قطع عمره جافّة

فيصمت قليلا

ثمّ يعاود البكاء!

عندما تُمطرُ بغزارة في الخارج

يعود الحطّابون والصّيّادون واللّصوص 

من الفراغات التي نسي العالم أن يحشوها

بأيّ شيء غير الجوع

إلى رأسي

فيُوقدون حكاياتهم الحمراء عن النّساء،

يشربون الكثير جدّا من هزائمهم المرّة

وقد يثرثرون

عن الله، عن الوطن، عن الخبز 

وحتّى عن الكافيار

ثمّ يتبادلون الشّتائم البذيئة وينامون!

وحده صيّاد عجوز

-جرّب كلّ أنواع النّساء، تقريبا-

يجلس في آخر رأسي،

بين العتمة والضّوء،

ما زال يطارد قطيع رغباته

بين أحلام نشّال صغير؛

نشّال اكتشف، 

لتوّه، 

كيف تصير الكلمة رصاصة نافذة 

وكيف تصير حبّة الفاكهة 

مصيدة!

عندما تُمطرُ بغزارة 

على المدن التي لا تنام حتّى في ليالي الشّتاء

وتغسل المطر الشّوارع 

من المارّة العالقين بالأرصفة وبالواجهات

ومن الخطوات والظّلال التي تركها العشّاق وراءهم

ليسارعوا إلى مقهى ما أو حانة ما

أو إلى نساء و رجال آخرين!

حينها، يقف زنجيّ يعزف على البوق

عند حلمة صدري اليمنى

وتقف قبالته،

عند حلمة صدري اليسرى،

حبيبته الفاتنة البيضاء عازفة "الساكسيفون"

ويعزفان موسيقى "جاز" حزينة

لعلّ النّهر الأحمر الغائر في صدري

الذي يفصل بينهما

تقطّبه معزوفة ما

فيجتمعان ولو لقبلة واحدة

قبل أن يُعيد العالم فتق الجرح...

فقط، عندما يومض البرق

يظهر وجهه المشوّه؛

شاعر سكران،

داخل حلقي،

يصرخ، 

بهستيريا، 

كأرملة خمسينيّة فقدت ابنها الوحيد في حادث سير! 

لأنّ الزّنجيّ و حبيبته عزفا مقطوعة موسيقيّة؛

مقطوعة ذكّرته بحبيبته التي تركها في جقل الذّرة

تنسج لهما من تعب الحقول 

بذلة و فستان فرح

وقدم إلى مدينة لا تنام حتّى في ليالي الشّتاء

ليصنع للطّفل الباكي،

داخل قلبه،

فرحا قليلا يغمس فيه قطع عمره الجافّة... 

فقط، عندما يومض البرق

أرى اللّصوص يغادرون أصابعي

يحملون جثّة طفل

بينما صيّاد عجوز يلقي بنفسه من أعلى رأسي

ليطير

ويتواصل نزول المطر في الخارج.

النّهر الأحمر ..هيثم الأمين / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 06 فبراير Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.