وضعيّة المرأة والحقوق الطّبيعيّة ....مقال بقلم فتحي جوعو / تونس
مقال بقلم فتحي جوعو
وضعيّة المرأة والحقوق الطّبيعيّة !
منذ أن تحوّل المجتمع البشري، في المنظور الأنثروبولوجي، من النّظام القبلي "الأمومي" إلى النّظام القروي "الأبوي" والمرأة تكابد أشكالا كثيرة جدا من الاستغلال والاضطهاد والقمع والعبوديّة. فتملّك الرّجل للأرض ومن عليها سمح له أيضا أن يسطو على المرأة فتحوّلت هي أيضا إلى ملك خاصّ للرّجل جعل منها منتجة في الأرض ومصنعا يُنتج الأيادي العاملة في شتّى الأعمال الفلاحيّة وغيرها. وليس هذا بغريب في بداية نشأة المجتمعات البشريّة وما صاحبتها من تحوّلات اجتماعيّة واقتصاديّة أرست دعائم النّظم اللاّ متكافئة قبل بروز النّظم الطّبقيّة بملامحها الواضحة. لنؤكّد إذن منذ البدء أن اللاّ تكافؤ في فرص الحياة وفي الحقوق لازم الإنسان منذ بداية تاريخه. لكن ما يُزعج الزّمن الحاضر بعد تتالي الثّورات الإنسانيّة وبعد تحقيق كثير من المكاسب هو رسوخ مظاهر القهر والاستعباد والاستبداد الموجّه ضد المرأة وبقاء رواسب اللاّ تكافؤ بينها وبين الرّجل رغم ما وصلت إليه البشريّة من تقدّم علمي وحضاري وما تمتّعت به من حقوق ورفاه...إلخ فما الّذي يُبرّر المفارقة بين هذه المكاسب وبين اللاّ تكافؤ في توزيعها؟ أين يكمن لبّ الخلل الّذي ما زال يحُدث في هذا العصر كثيرا من التّوتّر والصّراع؟
لا نستثني في هذا المجال أي مجتمع من المجتمعات البشريّة المعاصرة فجميعها تتراوح فيها درجات الاضطهاد نزولا وصعودا حسب عقليّتها ووضعها الاجتماعي والاقتصادي والسّياسي لكن التّكافؤ التّام غائب عندها جميعا! ولعلّ أفضل دليل على ذلك جداول الإحصاءات الّتي تتعلّق بتعنيف المرأة وحرمانها من حقّها المتكافئ مع الرّجل في الممارسة السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة وفي بعض المجتمعات الأخرى نجد غيابا مطلقا لأدنى حقوقها! لذلك حين نهتمّ بالأسباب العميقة لعدم التّكافؤ نتوجّه خاصة إلى الأسس أو إن أردنا نتوجّه إلى الحقوق الأساسيّة أو الطّبيعيّة التي تمثّل الأصل والمركز لكل الحقوق الأخرى فنتساءل هل هناك ضمان مطلق لهذه الحقوق أي هل أنّ كلّ من ينتمي إلى الأسرة البشريّة يتمتّع بحقوقه التي وهبتها له الطّبيعة؟ فالإشكال أعمق بكثير حين يتعلّق الأمر بالإنسان ككلّ، رجلا كان أم امرأة! ثمّ نتساءل ما مكانة هذه الحقوق بالنّسبة للمرأة؟
تتمحور الحقوق الطّبيعيّة في ثلاثة حقوق أساسيّة Les Droits de Base التي تميّز الإنسان في كيانه وذاته وهي الحقّ في الحياة والحقّ في الحريّة والحقّ في الكرامة وهي حقوق تعكس وتجسّد الطّبيعة البشريّة لذلك هي ما بها يكون الإنسان إنسانا متميّزا عن غيره من الكائنات الحيّة الأخرى. وعندما نتحدّث عن "الإنسان" في هذا الإطار فإننا نقصد الإنسان الكلّي الذي ينضوي تحته كلّ من ينتمي إلى الأسرة البشريّة مها كان جنسه ولونه وأصله وانتماؤه إلخ... ومن يراجع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصّادر سنة 1948 يجد المادة الأولى منه تؤكّد على هذه الحقوق الإنسانيّة الكونيّة بدليل قولها:" يولد جميع البشر متساوين في الحرية والكرامة ..." وانطلاقا من البعد الكوني لهذه الحقوق الأساسيّة وطابعها الشّمولي لم يعد هناك مجال للمفاضلة بين الرّجل والمرأة طالما أننا نعتبرهما ينتميان إلى فئة "الإنسان". وهذا ما يجعلنا نؤكّد أن المرأة كذا الرّجل وهبت لهما الطبيعة الحياة والحرّيّة والكرامة وليس من حقّ أحد أن يقلّص هذه الحقوق أو يحدّ منها أو يمنحها لطرف ويحرم منها طرفا آخر. وتكتسي هذه الحقوق الأساسيّة أهميّة قصوى إذ عليها ترتكز جميع الحقوق الأخرى المدنيّة والسّياسيّة وكلّ تصدّع في الأساس ينجرّ عنه انهيار للبناء ككلّ. فإن نزعنا مثلا عن المرأة أو عن الرّجل الحقّ الطبيعيّ في الحريّة يُحرمان بالضّرورة من كلّ الحريّات الأخرى المتفرّعة عن هذا الحق الطّبيعي كحريّة التّعبير وحريّة الاعتقاد وحريّة التّنقّل وحريّة الرّأي وحريّة الانتماء السّياسيّ والمدنيّ ...إلخ. وإن تصدّع الحقّ في الكرامة الإنسانيّة كحقّ طبيعيّ ومطلق لم تعد الإهانة والقهر والتّعنيف مدعاة للاستنكار والرفض! وقس على ذلك جميع الممارسات اللاإنسانيّة المسلّطة على "الإنسان" في مختلف المجتمعات يعود أصلها في الواقع إلى ضرب هذه الحقوق الأساسيّة نظريّا وعمليّا. لذلك تثير التّفرقة بين الرّجل والمرأة والتّمييز بينهما في مستوى الحقوق والواجبات مشكلا مغلوطا ويزيد هذا الغلط في الحدّة حين يعتقد بعض الرّجال أو الذكور الّذين بيدهم مقود المجتمعات من رجال سياسة وزعماء وغيرهم أنهم أعطوا للمرأة "حقوقها" وسعوا للمحافظة عليها وترسيخها في حين أن الحقوق سابقة في الوجود عن كل تشريع وعن كل قانون فالمغالطة الكبرى التي ما تزال تكبّل تفكيرنا أنّنا ما زلنا نعتقد إلى اليوم أن المرأة بحاجة إلى الرّجل حتى تتمتّع بحقوقها وما زال الرّجال يعتقدون أن لهم فضائل على النّساء ولولاهم لما أُسند للمرأة ادنى الحقوق في حين أننا نعلم علم اليقين أن هذه الحقوق الأساسيّة هي حقوق تميّز الطّبيعة البشريّة وإن التّمتّع بها في واقع الممارسة يجسّد الحياة الإنسانيّة الحرّة والكريمة للمرأة والرّجل على حدّ سواء.
لكن السّؤال الملحّ في هذا المجال هو كيف يمكن تجسيد هذه الحقوق الأساسيّة الطّبيعيّة في واقع الممارسة الاجتماعية وضمن إطار مدني يسمح بالتعايش المتكافئ؟
أجمع كلّ الحقوقيين والفلاسفة أن الحقوق الإنسانيّة في مستواها الطّبيعي المطلق لا يمكن لها أن تتحقّق في المجتمع إلاّ ضمن إطار تشريعيّ وقانونيّ يُنظم الحياة البشريّة ويحافظ على أعلى درجات السّلم الاجتماعي ويحقّق أقصى ما يمكن من العدالة والتّكافؤ في توزيع الحقوق والواجبات على أفراد المجتمع الواحد ويُقلّص أكثر ما يمكن من المظالم بالتّمييز بين الجنسين لذلك كان لا بد من إطار قانونيّ وتشريعيّ تتحوّل به هذه الحقوق الطّبيعيّة إلى حقوق مدنيّة قابلة للتّجسيد في الواقع دون المساس من كيان الإنسان أو المسّ من كرامته. لذلك اجتهدت معظم الأمم والبلدان والمجتمعات الإنسانيّة من تدوين القوانين التي تحمي حقوق الإنسان رجلا كان أو امرأة في دساتيرها التّشريعيّة حتى تضمن التّعايش السّلمي الحضاريّ والإنسانيّ مع تجريم كل محاولة لطمس هذه الحقوق أو حرمان فئة من أفراد المجتمع منها أو المسّ من كرامة الإنسان وخدشها مهما كان جنس ووضع هذا الإنسان، وإن دعّمت بعض المجتمعات مجموعة من القوانين للمحافظة على حقوق المرأة وضمانها فإن ذلك يعود إلى ما كابدته المرأة من مظالم وحرمان سلّطه المجتمع الذكوري عليها وإرادة منها أن تسجّل هذه المكاسب في سجلّ المجتمعات المتحضرة التي يقاس مقدار تطوّرها وتقدمّها وتحظرّها بالمكانة الإنسانيّة التي تحتلّها المرأة. لكن رغم كون وضع القوانين ورسم التّشريعات التي تحافظ على حقوق المرأة أمر إيجابيّ بلا شكّ فإن القضيّة تبقى ضبابيّة بل مغلوطة إن لم تتحول إلى قناعة فكريّة وسلوك حضاريّ يوميّ يكشف تعامل الرّجل مع المرأة لا بماهي "أُنثى" أقلّ منه مرتبة ودونه في القدرات والمستطاع بل بما هي متساوية معه في الإنسانيّة أي بما هي كيان إنسانيّ يتواجد مع الرّجل جنبا إلى جنب يتمّتعان بنفس الحقوق ويقومان بنفس الواجبات دون تميّز أو مفاضلة أنانيّة وزائفة كما أن لهما نفس الأدوار الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة دون وصاية طالما أن المرأة كالرّجل قادرة على أداء واجباتها والقيام بوظائفها في إطار القوانين والتّشريعات الاجتماعية، وتتحمّل أيضا نفس المسؤوليّة كغيرها من أفراد المجتمع الواحد. وإن هذا التّكافؤ في الواجبات والحقوق لا ينفي ما يوجد بين جميع أفراد المجتمع من اختلافات ذات أصل طبيعيّ أو اجتماعيّ هذه بديهة لا جدال فيها، أما "التميّز والتعالي" الّذين يريد الرّجل أن يتفرّد ويتمتّع بهما في مقابل "ضعف وقزامة" المرأة فهو أصل البلاء والحيف والمظلمة وأصل النّظرة الذّكوريّة والدّونيّة لها وأيضا سبب التخلّف في بعض المجتمعات. لذلك إن أردنا أن نسجّل خطوات نحو الّتقدّم في نظمنا الاجتماعية وفي علاقاتنا الإنسانيّة فإننا بحاجة ماسّة وأكيدة إلى التّعامل مع المرأة بما هي الآخر الإنساني الذي نتفاعل معه كشرط وعينا بذواتنا ورهان وجودنا والعكس صحيح. إن هذه العلاقة التّكافئية تشترط حسب رأينا تحرّر الرّجل أولا من عقده الذّكوريّة ومن وهم التّعالي والسّيادة والتّسلّط على المرأة والشجاعة ثانيا في تغيير نظرته إليها من نظرة متشيئة أداتيه محدودة وضيقة تنحصر في مجرد إشباع الرّغبات والنّزوات المختلفة والمتنوّعة إلى نظرة "بيذاتيّة" إنسانيّة تهدف إلى بناء الذات والمجتمع معا. ثمّ ثالثا ضرورة تحرّر المرأة من نظرتها الدّونيّة لذاتها ومن تقزيم كيانها أمام الرّجل وذلك بالوعي بقدراتها وكفاءاتها ودورها المحوري في المجتمع والقطع نهائيّا مع المعتقدات الرّاسخة في ثقافتها المتوارثة بأنّها دون الرّجل مكانة وقدرة ومستطاع.
ومن المغالطات التي ما تزال بارزة في مجتمعاتنا رغم الرّقيّ الّذي بلغته والّتي تعمّق أكثر الهوّة بين الرّجل والمرأة هي تخصيص يوم 8مارس من كل سنة كيوم عالمي للمرأة ويوم 13 أوت كيوم وطني لها وإنّ أقلّ ما يدلّ عليه هذا "الاحتفال" الّذي صنعه الرّجال التّعبير اللاّواعي على الشّعور بالذّنب لهؤلاء في حق المرأة عبر التّاريخ فالمرأة بما هي إنسان بحاجة إلى ممارسة حقوقها الإنسانيّة في كل أيّام السّنة وعلى مدى السّنون كغيرها من البشر دون الحاجة إلى الاحتفالات المناسبتيّة.
فتحي جوعو في 1 أوت 2017
وضعيّة المرأة والحقوق الطّبيعيّة ....مقال بقلم فتحي جوعو / تونس
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
13 أغسطس
Rating:

ليست هناك تعليقات: