عِشْقٌ عَلَى آخِرِ مِشْعَلٍ يَنُوسُ في بَغْداد (1992) بقلم الدكتور سرجون فايز كرم / لبنان
عِشْقٌ عَلَى آخِرِ مِشْعَلٍ يَنُوسُ في بَغْداد (1992)
سارُوا عَلَى الدَّرْبِ القَديمِ وَثاروا
وَجْهي يُرَمِّمُهُ الغُبارُ
حَمَلُوا مَعَ اللَيْلِ الطَويلِ جِراحَهُمْ
مَجْدًا وَزَوْبَعَةً يُقَوِّضُها الحِصارُ
قالوا سَنَرْجِعُ حينَ تُصْبِحُ أَرْضُنا
وَطَنًا مُعَدًّا لِلْصَهيلِ وَلِلأَصيلِ
وَكُنْتُ أُعْلِنُ لِلْخَريفِ
بِأَنَّ فَصْلَ حَصادِنا وَلَّى
وَفي عَيْنَيْكِ يُجْتاحُ النَّهارُ.
وَبَدَأَتُ أَطْرُقُ كُلَّ مَمْلَكَةٍ
وَأَبْني لِلْخَليقَةِ عُمْرَها
أَبْني بِلادًا لا يُواريها الجُنُونُ
مُعَدَّةٌ لِلإِعْتِرافِ أُصولُها
وَمسارُها وَهْمٌ وَإِعْصارٌ وَنارُ
وَبَدَأَتُ أُعْلِنُ أَنَّهُمْ سارُوا
وَوَجْهي قَدْ تَناسَتْهُ الدِيارُ
حَمَلَتْ رِياحُ الشَّرْقِ أَمْتِعَتي
وَلَمَّا أَظْهَرَتْ للاجِئينَ وَباءَها
مَدُّوا عَلَى الدَرْبِ الصَّغيرِ بِساطَهُمْ
نادَوا بِما مَلَكَتْ قَضِيَّتُهُمْ
عَيْناكِ نَوْعٌ يَصْطَفيهِ الانْهِيارُ.
سارُوا وَفي شَفَتَيْكِ وَقْعٌ وَانْكِسارُ
وَأَنا أُمَهِّدُ لِلُجوءِ مَمالِكا
جاءَتْ تُوَدِّعُ شَمْسَها بِجَميعِ أَشْكالِ الحِصارِ
تَقُولُ:
أَنْتَ انْتِحاري
أَنْتَ انْكِساري
أَنْتَ اخْتِياري
تَعِبَتْ خُطايَ مِنَ الوُجودِ
فَكَيْفَ أَبْكي مِنْ دَماري
أَنْتِ القَرارُ
أَنْتِ القَرارُ
أَنْتِ القَرارُ.
عَرْشي تَلَوَّثَ بِالتَشَرُّدِ وَالتَّمَزُّقِ
أَيْنَ دِهْليزُ الفِرارِ
حَتَّى أَسيرَ إلى صَلاتِكِ حامِلاً
طَعْمَ الهَزيمَةِ وَالفَجيعَةِ
وَاللُّغاتِ المُسْتَحيلَةِ
وَالوُجُوهَ المُسْتَطيلَةَ
كَيْ أُدافِعَ عَنْ نَهاري
وَأَرُدَّ زَحْفَ الرُّومِ عَنْ أَسْوارِ قَرْيَتِنا
وَأَبْكي في حَياءٍ دامِعٍ
وَجْهي المُحَنَّى بِامْتِيازاتِ الدَّمارِ
وَأَفُكَّ لُغْزَ العابِرينَ
وَأَعْتَلي جُرْحًا عَلَى الخَطِّ المُدَمَّى
بَيْنَ تَبْغي وَانْهِياري.
سارُوا
وَقالُوا إنَّهُمْ بِالمُسْتَحيلِ سَيُطْفِئُونَ المُسْتَحيلا
وَبَدَأَتُ أَمْسَحُ حَرْقَةَ القَطْرانِ مِنْ عَيْنَيْكِ
أُلْبِسُها جُنُوني ثُمَّ أَرْفَعُها نَخيلا
وَأَغُصُّ في بُحِّ الحَناجِرِ عِنْدَما قالوا
سَنَرْجِعُ حينَ نَلْقَى مَنْ يُعَلِّمُنا الصَّهيلا
وَيَسيرُ نَحْوَ القُدْسِ في زَمَنِ الغُرُوبِ
وَحينَ يَغْنَى يَبْتَني كُوخًا وَيُهْدينا الجَليلا.
في البالِ مَهْزَلَةُ العِدَى
لَكِنَّنَا أُمَمٌ تَرَى صُلْبانَها سَقَطَتْ
مَتَى صارَتْ رَحيلا.
قَرَعوا الطُبُولا
وَمَضَوْا يُغَنُّونَ الأَناشيدَ
التي لا تَنْتَهي لِجَميعِ أَشْكالِ الهَزائِمِ
حينَ تَنْقَضُّ الهَزائِمُ مِنْ غُرُوبٍ مُلْتَحٍ
حُزْنَ الشَّوارِعِ وَالمَدينَةِ.
كُنْتُ وَحْدي أَنْتَمي
لِلْعائِدينَ إلى هَياكِلِهِمْ وَلِلسُّوَرِ القَديمَةِ
باكِيًا مِثْلَ الصَّلاةِ
وَعارِيًا مِثْلَ الجُنُونِ
وَحافِيًا طولَ المَدَى.
كانَ المَدَى مِثْلي أَنا
مِثْلَ الشُّعُوبِ العابِراتِ إِلى مَآتِمِنا
بِلا مَوْتٍ يَمُوتُ
وَعَلَى يَدَيْكِ أَنينُ آلافِ الشَوارِعِ
وَالَمآذِنِ حينَ يَفْضَحُها السُكُوتُ
سارُوا وَماتُوا...
وَأَنا أُفَتِّشُ في مَدَى عَيْنَيْكِ عَنْ أُمَمٍ
تُعَلِّمُني أُصُولَ السَّبْيِ في زَمَنٍ مُحَنَّاةٍ هَزائِمُهُ
لِأَحْلُمَ بِالرَّصاصِ
وَبِالسُّيوفِ
وَبِالبَنادِقِ
وَالبَيارِقِ
وَالوُضُوءِ الأَوَّلِ يَوْمًا إذا حَلَمَ الفُراتُ.
كُلُّ العَواصِمِ في مَداها قَدْ تَموتُ
إلاّ الصَّحارَى...
كَيْفَ نَقْتُلُها بِبَوصَلَةٍ تُعاكِسُها الجِّهاتُ
وَعَلَى يَدَيْكِ حَنينُ آلافِ الشُّعوبِ
إِلى الطُّفولَةِ وَالأَغاني
حينَ تَفْجَؤُها الصَّلاةُ.
كانَ المَدَى مِثْلي أَنا
مِثْلَ السَّبايا الباكِياتِ عَلَى ضَحايانا
يَبْكي هُنا
وَأَنا أَلُمُّ جُموحَ عَيْنَيْكِ المُشَيِّعَتَيْنِ
في الإسْفَلْتِ وَجْهَ البَدْوِ
حينَ تَجيئُني كُلُّ المَمَالِكِ مُعْلِناتٍ
أَنَّ سِحْرَ اليُتْمِ في عَيْنَيْكِ
لَيْسَ مَداهُ لي.
كُنْتُ الوَحيدَ مَتَى أُحِبُّ أَجُوعُ
لِلْهارِبينَ إِلى يَدَيْكِ مِنَ الحُرُوبِ
وَفي يَدَيْكِ صَهيلُ آلافِ الخُيولِ الحالِماتِ بِشَمْسِها
كانَتْ مَتَى أَبْكي تَجيءُ
وَحينَ أَعْشَقُها كانَتْ تَضيعُ
رُدِّي ليَ المَنْفَى وَلا...
لا تَعْشَقيني...
لا تَكْرَهيني...
لا تَفْهَميني...
كُلُّ الدُروبِ مَتَى تَسيرُ سَتَنْتَهي
في خَيْمَةٍ
رُدِّي ليَ المَنْفَى
لِأَعيشَ مَنْفِيًّا
كَالبَدْوِ مَنْفِيًّا
كَالخَيْمِ مَنْفِيًّا
كَدُورِيٍّ يُعَشِّشُ فَوْقَ مَأْساةٍ وَطينِ
لا تَعْشَقيني...
لا تَكْرَهيني...
لا تَفْهَميني...
لا تَقُولي لي
تَعالَ ِإليَّ نَبْنِ السَّدَّ مِنْ تَعَبِ السِنينِ
إِنِّي أَنا ابْنُ جَلا وَنَزَّالُ السَنايا
حينَ أُهْديكِ العَمامَةَ تَعْرِفيني
إنِّي نَزيفُ العُودِ مِنْ سَلَفِ نِزارٍ
مِثْلَ حَدِّ السَّيْفِ مَكْسورُ الجَّبينِ
ِإنِّي أُفَتِّشُ عَنْ كَرى طُرُقٍ تُعاكِسُني
لِكَيْ آتيكِ مِنْ غَسَقِ الهَزيمَةِ
مُصْطَلٍ بِالدَّمْعِ وَالطِّينِ.
بَغْدادُ... يا شَبَقَ العُبُورِ إِلى العُبُورِ إِلى العُبُورِ
بَغْدادُ... يا وَطَنًا يُحاوِلُ أَنْ يَعيشَ إِلى نِهايَتِهِ الأَكيدَه.
بَغْدادُ... يا حُلُمًا مِنَ الأَحْلامِ يَبْحَثُ عَنْ مَنافيهِ البَعيدَه.
بَغْدادُ... يا شَكْلاً مِنَ الأَشْكالِ تَصْلُبُهُ قَصيدَه.
بَغْدادُ... ما أَنْكَبَ التَّاريخَ فَوْقَ جَريدَه.
لا تَعْشَقيني...
لا تَكْرَهيني...
لا تَفْهَميني...
كانَ عَبيرُكِ لي يَقولُ:
سَأَكْسِرُ الأَوْزانَ وَالإِعْرابَ
حينَ يَخونُنُا الأَعْرابُ وَالدَّمْعُ البَتُولُ
سَأَكْتُبُ التَّاريخَ مِنْ سَأَمٍ وَمِنْ تَعَبٍ يَطُولُ
سَأَزْرَعُ الأَقْصى وُرودًا لا تُعَرِّيَها الفُصُولُ
كانَ عَبيرُكِ لي يَقُولُ:
كُنِ الفُراتَ فَأَنا الشُمُولُ.
كانَ عَبيرُكِ لي يَقُولُ:
خُذْني كَمِقْصَلَةٍ
كَزَوْبَعَةِ المَدَى
لِأَصيرَ مَمْلَكَةً مُطَوَّقَةً بِأَسْلاكٍ
تُحَدِّدُها عَيْناكَ وَالقَدَرُ
فُرْسانُها أَشْباهُ آلِهَةٍ
خُدَّامُهُمْ بَشَرُ
أَلعُنْفُ مَنْطِقُها
وَالمَوْتُ جَوْهَرُها
وَحُروبُها رِدَّه
وَسلامُها ضَجَرُ
أَسْوارُها حُمَّى
وَحُدودُها حُمَّى
طُرُقاتُها حُمّى
وَنَسيمُها سَقَرُ
ألقُدْسُ عاصِمَةٌ
بَغْدادُ قِبْلَتُها
وَالشَّامُ تَرْسُمُها
بَيْروتُ وَالعُمْرُ...
صَمْتٌ لِمَوْعِدِنا سارُوا
وَكانَ الحُزْنُ سَيِّدَنا
وَالشَّمْسُ وَالِإسْفَلْتُ وَالعارُ
وَعَلَى يَدَيْكِ أُريدُ أَنْ أَهْوِيَ
فَمَنْ يَأْتي لِيَصْلُبَني
إذا عَبَرَتْ وُفُودُ اللاجِئِينَ إِلى مَعابِدِنا.
صَمْتٌ لِمَوْعِدِنا
وَهَذا اللَيْلُ مَمْلَكَتي
وَمَدُّ اليُتْمِ في عَيْنَيْكِ سَيِّدُنا
وَالرُّومُ ِإنْ أَتَتْ تَأْتي لِتَنْكُبَنا
وَرَبُّكَ إِنْ طَلَبْناهُ بِسَيْفِ البَدْوِ حَنَّانُ
بِسَيْفِ البَدْوِ مَنَّانُ
بِسَيْفِ البَدْوِ سَتَّارُ
وَغَفَّارُ
وَبَتَّارُ.
سارُوا...
كانُوا يَسيرُونَ اللَياليَ
لا يَسْأَلونَ عَنِ الزَّمَنِ المَحالِ
كانُوا يَقولونَ الوَصايا
كُلَّ أَشْياءِ الوَصايا
في طَريقٍ غائِصٍ بِالاغْتِيالِ
وَعَلَى يَدَيْكِ حَنينُ آلافِ الشُّعوبِ الحالِماتِ بِخَيْمَةٍ
وَأَنا أُفَتِّشُ عَنْ إِلَهٍ بَرْبَرِيٍّ يَسْتَفيقُ مِنْ سُعالي
أَنْتِ القَرارُ
أَنْتِ القَرارُ
أَنْتِ القَرارُ.
عِشْقٌ عَلَى آخِرِ مِشْعَلٍ يَنُوسُ في بَغْداد (1992) بقلم الدكتور سرجون فايز كرم / لبنان
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
02 نوفمبر
Rating:
ليست هناك تعليقات: