موتُنا مؤجَّلٌ إلى حين ..صبري يوسف/ سوريا
وفاة والد الصَّديق المخرج السِّينمائي حميد عقبي رئيس المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح
ببالغ الحزن والأسى قرأتُ خبر وفاة والد الصَّديق المخرج السِّينمائي حميد عقبي، رئيس المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، فلا يسعني إلّا أن أتقدَّم بخالص التّعازي القلبيّة باسمي وباسم عموم الأصدقاء والصّديقات والكتّاب والكاتبات والشّعراء والشّاعرات والأدباء والأديبات والنّقاد والنّاقدات والتّشكيليين والتّشكيليات، وسائر المتابعين والمتابعات لورشات وندوات المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح، راجياً من الله أن يسكنه فسيح جنّاته ويمنح صديقنا الغالي الأستاذ حميد عقبي وعموم آل عقبي في كلّ مكان الصّبر والسّلوان.
وبهذه المناسبة الأليمة أودُّ أن أنشر مقتطفات من نصٍّ شعري بعنوان: "موتنا مؤجَّل إلى حين"، وقد سبق ونشرتُ مقتطفات من هذا النّصِّ في بعض مناسبات رحيل الأحبّة إلى قبَّةِ السَّماء، وأستطيع القول أنَّ نصّاً كهذا يصلح أن يكون للذين يرحلون إلى الأعالي في هذا الوقت العصيب وفي كل وقتٍ من الأوقات، مؤكِّداً لكلِّ الأحبّة المتابعين والمتابعات أنّ هناكَ نصوصٌ تصلحُ لكلِّ زمانٍ ومكان ولكلِّ المناسبات الّتي تصبُّ في أوجاعِ آهاتِ الرّحيل!
موتُنا مؤجَّلٌ إلى حين
أنشودة الحياة
[نصّ مفتوح]
أفرشُ ذاكرتي فوقَ جمرِ النَّارِ
أراها مدموغةً بالبكاءِ
ذاكرتي مهتاجةٌ بالحنينِ
منقوشةٌ بالنَّدى
مرميةٌ على قارعةِ الأنينِ
تزدادُ اشتعالاً تحتَ قميصِ اللَّيلِ
أعبرُ غربةً بعيداً عن مرافئِ الصِّبا
بعيداً عن هدهداتِ الطّفولة
بعيداً عن نداوةِ الحنطة
بعيداً عن غربال أمّي
بعيداً عن أهازيجِ الصَّباحِ
أعبرُ ذاكرةً موغِّلةً في شفيرِ الصَّقيعِ
ذاكرةً هاربةً من بوحِ اللَّيلِ
هاربةً من بسمةِ العيدِ
من ألعابِ الطُّفولةِ
ذاكرةً متأرجحةً على أصداءِ الرَّحيلِ
تلقَّفتني غيمةٌ حُبلى بأوجاعِ الرِّيحِ
قلمي لا يفارقُ وداعةَ الطِّينِ
اليومَ سأنكسُ رايةَ غربتي
أمامَ جلالِ الضَّريحِ
كيفَ أطيقُ ليلي أو نهاري
كيفَ أتحمَّلُ صباحي
بعيداً عن بخورِ المزارِ
بعيداً عن صدورِ الأحبّةِ
عن ظلالِ الدِّيارِ؟!
مَنْ يسقي زنابقَ حوشي العتيقِ
روحي غضبى من أنينِ الفراقِ
من كبحِ اخضرارِ العدالاتِ
روحي غضبى من ضراوةِ العمرِ
عمرٍ مفخَّخٍ بينَ متاهاتِ غربةِ الرُّوحِ
عمرنا يزدادُ اشتعالاً بين لظى الجمرِ
ضللنا الطَّريقَ عن جادةِ الأفراحِ
تهنا في خضمِّ البكاءِ
كيفَ عبرنا وراءَ البحارِ؟
تلبَّدَ وجهُ الصّباحِ بآهاتِ الأنينِ
كيفَ تحمَّلنا فراقَ الدِّيارِ؟
تنامتِ الأحزانُ فوقَ سديمِ الأحلامِ
مَن رمانا في غربةٍ
تضاهي لهيبَ النَّارِ؟
ذرفنا الدُّموعَ مراراً
بعيداً عن حنينِ الأحبّةِ
قُتِلَتْ أحلامُنا مراراً
في رابعةِ النّهارِ
زمنٌ مكفهرُّ العينينِ
من لونِ البلاهةِ
من جنوحِ الجنونِ
زمنٌ مكوَّرٌ بلظى الانتحارِ!
أقفُ أمامَ البحرِ أنادي
فجأةً تنبلجُ صورةُ أمِّي
من خضمِّ الموجِ
دمعتان معلّقانِ في شوقِ المآقي
عتابٌ يتناثرُ فوقَ رذاذاتِ الموجِ
أرى دالياتي تورقُ من جديدٍ
فوقَ أمواجِ البحرِ
تتدلّى من أغصانِها عناقيدُ العنبِ
أملأ سلالي قبلَ بزوغِ الشَّفقِ
ثمَّ أغوصُ عميقاً في رحابِ الحلمِ
أيُّها القلب
لا أتذكَّركَ إلّا محفوفاً بالانكسارِ
مطوَّقاً بلهيبِ النّارِ
نارِ الغربةِ
نارِ الولاءِ
ولائي لزرقةِ السَّماءِ
لأسرارِ بوحِ الشِّعرِ
عابراً خفايا الحرفِ
بحثاً عن وجهِ أمّي المقمَّر
وجهٍ مكتنزٍ بخبزِ الحياةِ
تشتعلُ أحلامي من لوعةِ الفراقِ
فراقُ الأحبَّةِ وموتُ الأمّهاتِ
اشتدَّ الخناقُ على معصمي
على معابرِ الحلمِ
على تكويرةِ المآقي
أكتبُ شعري بعيداً عن ألقِ الطِّينِ
بعيداً عن أزقَّتي
بعيداً عن ورعِ الحنينِ
أكتبُ شعري من وطأةِ الأسى
تخفيفاً من مكابداتِ السّنينِ
تخنقُني غربتي
تتربَّصُ بي على مدارِ اليومِ
تسعفُني بسمةٌ وارفةٌ من خلفِ البحارِ
أصدقائي قاماتُ فرحٍ في وجهِ البكاءِ
رسالةُ حبٍّ إلى يراعِ الوفاءِ
كم من الآهاتِ حتّى هاجَتِ الرِّيحُ
كم من الدُّموعِ حتّى أينعتِ الأزهارُ
كم من الغربةِ حتّى تلألأتْ في بؤرةِ الرُّوحِ
أغصانُ القصائد؟!
قصيدتي ملاذي الأخير
من هولِ المصائب
قصيدتي صديقةُ غربتي
وأنا صديقُ الحرفِ
صديقُ الموتِ
صديقُ الزَّمنِ الآتي
صديقُ اللَّونِ
صديقُ غربةِ الغرباتِ
لا تقلق يا قلبي
يا صديقَ الموجِ والبحرِ ودموعِ الأمّهاتِ
لا تقلق يا صديقَ الشّعرِ
يا لونَ الطّفولةِ
يا قصيدةً راعشةً فوقَ أسرارِ اللّيلِ
أعبرُ منارةَ الحزنِ
غربتي موشومةٌ بالأحزانِ
أنقشُ حرفي فوقَ شراعِ الرَّحيلِ
***
.... ..... ......
الحياةُ نسمةٌ عابرة
شهقةٌ هائمة فوقَ ثغرِ غيمةٍ
ودادٌ مندلعٌ من وجنةِ وردةٍ
حلمٌ مرفرفٌ فوقَ زبدِ البحرِ
رحلةٌ محفوفةٌ بذبذباتِ السُّؤالِ
غائصةٌ بشظايا الاشتعال!
وجعٌ عندَ الولادةِ
عندَ بزوغِ الرَّبيعِ
عندَ الشَّيخوخةِ
وجعٌ على مساحاتِ المدى
الحياةُ بسمةٌ حائرةٌ
فوقَ وميضِ الزَّمنِ
قصيدةٌ عذبةٌ
منبعثةٌ من خصوبةِ الغاباتِ!
الحياةُ تحملُ بينَ جذوعِها
أوجاعَ الموتِ
هي الموتُ بعينِهِ
دهليزٌ متشرشرٌ بالآهاتِ
يرتدي الإنسانُ قميصَ الحياةِ
ناسياً وعورةَ الجبالِ
وقهقهاتِ السَّماءِ
ناسياً حشرجاتِ الموتِ
ترافقُ كلَّ الكائناتِ
تعشِّشُ في بهاءِ الرَّبيعِ
في كثافاتِ غيومِ الشِّتاءِ
في صحارى العمرِ
الموتُ صديقُ الأطفالِ
والشَّبابِ والكهولِ
يغفو فوقَ شيخوخةِ هذا الزَّمان
فوقَ أغصانِ الحياةِ!
الموتُ ولادةٌ عبرَ الفناءِ
الإنسانُ مشروعُ موتٍ مؤجَّلٍ
موتٍ فوقَ قميصِ اللَّيلِ
موتٍ فوقَ حفيفِ الصّحارى
تحتَ زخَّاتِ المطرِ!
يولدُ الموتُ عندَ الولادةِ
عندَ انسيابِ الدَّمعةِ
ينمو بين ربوعِ السّعادةِ
فوقَ دفءِ الوسادةِ!
الموتُ صديقُ الغيمةِ
صديقُ البحرِ والسَّماءِ
صديقُ النُّورِ والعتمةِ!
أحزانُنا مفتوحةٌ على شهقةِ الكونِ
غربتُنا منسابةٌ من وهجِ القارّاتِ
الإنسانُ رحلةٌ من لونِ الغمامِ
رحلةٌ من زوالٍ
سؤالٌ مُلظّى فوقَ قبَّةِ الكونِ!
نعبرُ الموتَ أثناءَ الولادةِ
يتربَّصُنا الموتُ على قارعةِ الطَّريقِ
عندَ حافّاتِ المدائنِ
بينَ تعاريجِ الحلمِ
فوقَ أمواجِ البحارِ
موتٌ فوقَ بيادرِ الطّفولةِ
موتٌ في عزِّ النَّهارِ
في ليلةٍ قمراء
موتٌ في أعماقِ السَّماءِ
كلُّ البشرِ موتى
موتُنا مؤجّلٌ إلى حين
وهذا الحينُ سيحينُ يوماً
وما بينَ حينٍ وحينٍ
تهتاجُ الرِّيحُ
وتسطعُ الذّكرياتُ
فوقَ شواطئِ الرُّوحِ
تريدُ أن تبقى ساطعةً
على جدارِ الزّمنِ
هل للزمنِ جدارٌ؟
أين المفرُّ من تراكماتِ الغبارِ
غبارِ العمرِ لا تزيلُهُ
أمواجُ البحارِ
غبارِ العمرِ لا تزيلُهُ
إلّا قلوبَ الصِّغارِ
كيفَ يحافظُ المرءُ
على براءاتِ الطُّفولةِ
على أزهارِ الخميلةِ
على نُسيماتِ البحرِ العليلةِ؟
زعيقٌ يشقُّ خيوطَ الشّمسِ
عندَ الولادةِ
زعيقٌ يعبرُ قميصَ اللَّيلِ
زعيقٌ أثناءَ العبورِ
إلى أحضانِ الأمِّ
زعيقٌ أثناءَ الرَّحيلِ
زعيقٌ على مساحاتِ العمرِ
ثمّةَ عمرٌ من لونِ البكاءِ
من لونِ العطاءِ
من تواشيحِ زرقةِ السَّماءِ
ثمّةَ عمرٌ من دكنةِ اللَّيلِ
من لظى المراراتِ
من تشظِّي الآهاتِ
موتٌ في لحظةِ العبورِ
موتٌ فوقَ الأراجيحِ
موتٌ بينَ أحضانِ الأمّهاتِ
موتٌ في صباحِ العيدِ
في مساءاتِ الدِّفءِ البعيدِ
موتٌ على قارعةِ العشقِ
فوقَ أغصانِ الحنينِ
فوقَ أرخبيلاتِ الأنينِ!
موتٌ في رابعةِ النّهارِ
فوقَ سككِ القطارِ
في أعماقِ البحارِ
في قمّةِ الازدهارِ
موتٌ في قبَّةِ السَّماءِ
في ربوعِ الشّتاءِ
في أرقى تجلِّياتِ الدُّعاءِ
موتٌ بينَ أحضانِ الفرحِ
بينَ اخضرارِ المروجِ
بينَ رحابِ الغربةِ
موتٌ عندَ بزوغِ الفجرِ
عندَ هطولِ الثّلجِ
عندَ بكاءِ السَّماءِ
موتٌ في كلِّ حين!
لم أجدْ في حياتي حقيقةً ناصعةً
مثلَ حقيقةِ الموتِ
مثلَ مرارةِ الموتِ
مثلَ وميضِ الموتِ
مثلَ نعمةِ الموتِ!
هل فعلاً الموتُ نعمةٌ؟
وحدَها الأرضُ
تتحمّل أوزارَ الموتِ
تتحمّلُ مراراتِ الموتِ
حاجاتِ الموتِ!
ولكن شتّانَ ما بينَ موتٍ وموتٍ
شتّانَ ما بين كهلٍ وشابٍّ صريعٍ
تحتَ عجلاتِ هذا الزَّمان؟!
شتّانَ ما بينَ ربيعٍ
وتهدلاتِ الخريفِ!
يبقى الموتُ نعمةً
من الأعالي
يضعُ حدّاً لعذاباتِ البشرِ
لآلامِ البشرِ
لآهاتِ البشر
وحدَهُ الموتُ لا يميّزُ بينَ البشرِ
يحملُ بين شدقيهِ عدالةً
ولا كلَّ العدالاتِ
الحياةُ أشبهُ ما تكونُ رحلةً
من لونِ السَّرابِ
الحياةُ وجعٌ مفتوحٌ
على غربةِ الإنسانِ
غريبٌ أنا في ردهاتِ الحياةِ
غريبٌ أنا في مرامي المساءِ
غريبٌ أنا منذُ الولادةِ حتّى المماتِ!
نعبرُ الحياةَ على إيقاعِ الصَّباحِ
نرحلُ على إيقاعِ اللّيل
ومضةٌ عابرة في دنيا المكانِ
غصّةٌ جارحةٌ في عمرِ الزَّمانِ
يتوهُ الإنسانُ في صليلِ الحياةِ
لا يعلمُ أنَّ حفرةً صغيرةً
وقليلاً من الخشبِ
نصيبه من محطّاتِ الزَّمنِ
يخرُّ الإنسانُ سريعاً
مثلَ ذيلِ نيزكِ
عابراً دكنةَ اللَّيلِ
فارشاً أحزانَهُ على وجنةِ القمرِ
وجعٌ يلازمُ معابرَ العمرِ
غربةٌ تشطحُ فوقَ شهقةِ عمري
موتٌ لا يفارقُ لظى الجمرِ
موتٌ من لونِ الانبهارِ
موتٌ من لونِ الاشتعالِ
تعالَ يا أيُّها الموتُ
أهلاً بكَ يا موتُ
تعالَ فأنا بانتظارِكَ
منذُ فجرِ التّكوينِ
تعالَ يا صديقي
كي أضعَ فوقَ وجنتيكَ
باقةَ وردٍ
تعالَ أيّها الحنونُ
أيّها العناقُ الأزلي
تعالَ فأنا أترقَّبُ خطاكَ
منذُ هبوطِ الإنسانِ
على أرضِ الخطيئةِ
عجباً منذُ آلافِ القرونِ
ما يزال الإنسانُ يحملُ
بينَ جناحيهِ أوجاعَ الخطيئةِ!
تعالَ فأنا صديقُكَ
منذُ أن زرعتني شهقةً
فوقَ واحاتِ الصّحارى
منذُ أن غفيتُ
فوقَ حنانِ الأرضِ
تعالَ يا صديقَ الكائناتِ
كلَّ الكائناتِ
صديقَ الأرضِ والسّماءِ
صديقَ الأخيارِ والأشرارِ
تعالَ فأنا لا أهابُكَ يا صديقي
فأنا ابن الموتِ
منذُ أن ولدتني أمّي
مشروعُ كائنٍ ميتٍ منذُ الأزلِ!
الإنسانُ مشروعٌ فاشلُ
في دنيا من حجر!
نسى الإنسانُ أنّه بسمةٌ عابرةٌ
فوقَ خدودِ اللَّيلِ
نسى أنَّه غيمةٌ عابرةٌ
فوقَ هاماتِ الجبالِ
نسى أنّهُ وردةٌ تائهةٌ
بينَ رجرجاتِ الحياةِ
نسى أنّه ضياءُ نجمةٍ
من لونِ البكاءِ!
تعالَ يا موتُ
كم أشتهي أن أعانقَ خدّيكَ
أنْ ألملمَ عذوبتكَ
حولَ صقيعِ غربتي
تعالَ فقد آنَ الأوانُ
أن نعقدَ معاهدةَ حبٍّ
بيننا وبينَ المطرِ
تعال يا صديقي
فلا مفرَّ من لجينِ الاشتعالِ
لا مفرَّ من العبورِ
في شهقاتِ السّماءِ
مللتُ يا صديقي
من غربةِ هذا الزَّمان
مللتُ من تقعُّراتِ الحوارِ
من خباثاتِ هذا الزّمان!
عجباً أرى ملايينَ البشرِ
تعبرُ دكنةَ اللّيلِ
ملايينُ البشرُ
تحضنُ أعماقَ التّرابِ
وحدَهُ الموتُ يقفُ
مقهقهاً في وجهِ الحماقاتِ
في وجهِ اعوجاجاتِ هذا الزَّمان!
وحدَهُ الموتُ لا يهابُ جبابرةَ الكونِ
وحدَهُ الموتُ يفرشُ عدالتَهُ
فوقَ خدودِ الكونِ
وحدَهُ الموتُ سيِّدُ العدالاتِ
وحدَهُ الموتُ صديقُ الكائناتِ
يخفِّفُ من أنينِ الأوجاعِ
يضعُ حدَّاً لإندلاقاتِ الألمِ
يمسحُ في غمضةِ عينٍ كلَّ الآهاتِ!
وحدَهُ حرفي يترجمُ شهقةَ الموتِ
فوقَ رحابِ الزَّمنِ!
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
رئيس تحرير مجلّة السَّلام الدَّوليّة
ليست هناك تعليقات: