ضاعَ ذلكَ الطفلُ .. ولمْ يَعُدْ أبدًا إلى خريفِ الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين


وفي اواخرِ أيلولَ قبل المطرِ بغيمتينِ وعاصفةِ ورقٍ أصفرَ أنجبَتْ أمي الشابةُ بكرَها وَوَهَبَتْهُ قُرباناً لخريفِهِ الأوَّلِ , بَعْثَرَتْهُ قُصَاصَةَ ورقٍ بيضاءَ في ممالكِ الغبارِ والرمادِ , بَعَثتْهُ لبحرِ الساعاتِ والأيامِ شراعاً كي يُواجهَ الموجَ الأزرقَ المُراوِغَ , وكيف لهُ ذلكَ وهو لا يجيدُ فنَّ الملاحةِ ولا يحملُ في جيوبِهِ بوصلاتِ الشمالِ ؟ أَرْسَلَتْهُ إلى جهاتِ الريحِ بلا دليلٍ بلا قافلةٍ , والدربُ إلى هُناكَ طويلٌ طويلٌ كجدائلِ خُرافةٍ , ومُوحِشٌ كالبراري المُسْتَذْئبةِ في ليلِ ترحالِ الغجرِ , وكيفَ لهُ أنْ يعارَكَ جُنْدَ الريحِ في قلاعِهم الحصينةِ وهو الغصنُ الضعيفُ على باسقاتِ الدَّوْحِ الذي تؤذيهِ صفعةُ نسمةٍ رقيقةٍ ..
تقولُ لي أمي : منذ صغرِكَ كُنْتَ دائمَ التحديقِ في كلِّ شيءٍ حولَكَ , دائمَ الترقبِ والمراقبةِ , ودائمَ الشَكْوَى والسؤالِ , تُحاولُ لمسَ الأشياءِ واستكشافَ المنطقةِ بناظريْكَ لتَسْتَبْرِئَ وتستَقصيَ الأُمورَ , تجولُ في المكانِ بين الحيطانِ , وتدورُ في دوائرَ تلوَ الدوائرِ حولَ ظلالِكَ , كم من مرةٍ حَبَوْتَ على يديكَ وركبتيكَ إلى الطريقِ ! فَجُنَّ جنوني عندما ركضتُ وراءَكَ بكلِّ ما أُوتيتَ بهِ من أُمومةٍ , ولم تفلتْ بعدَها من مجالِ رؤيا عينيَّ الحارستينِ , اللتينِ خَفَرَتا أدقَّ تَحَرُكاتِكِ .. وكم من مرةٍ قبضْتَ على جمرةٍ تحسبَها دميةً أو فاكهةً تُؤكلُ فاحترقَتْ يدُكَ ! صرخْتَ متوجعًا باكيًا شاكيًا وبكيْتُ بحرقةٍ معكَ ، سَهِرْتُ مع وجعِكَ كلَّ الليلِ , أُهَدْهِدُ سريرَكَ حتى غَفَوْتَ كالملاكِ الصغيرِ ..
كنتُ أراكَ في رُؤايَ الصامتةِ المُطِلَّةِ على قادمِ أيامِكِ كثيرَ التجوالِ لا تقيمُ ولا تستقرُ , ولا تُلقِي عَصَا التَّطوافِ , أوْ لربما كنتُ أراكَ بحارًا أو رحالةً , أو كالسندبادِ البحريِّ مُحِبًا للأسفارِ والمُغامرةِ , تجولُ في دارةِ القمرِ شُعاعًا من نورٍ دريٍّ , وتمورُ جيئةً وذهاباً في المواقيتِ كالثواني والدقائقِ المُتَعَجِّلَةِ , وكأنكَ راقصُ ساعةٍ حائطيَّةٍ يتراقصُ كزوربا اليونانيِّ على شواطئِ كريتَ , لا يَتَوَقَفُ ولا يَسْتَريحُ ولا يَتَسَمَّرُ هَلِعًا من أشباحِ الليلِ ..
قُلتُ لها والدهشةُ تعلُو مُحَيَّايَ : وهلْ تَوَقَفْتُ عن ذلكَ ؟ ... 
تقولُ أُمِي : لا أَدْرِي مَنْ أقامَ حولَ خيالِكِ سُورًا منْ الحجارةِ والأسلاكِ الشائكةِ ؟ فكلما طَفِقْتُ تُحْصِي خيباتِكِ انتكسَ أناكَ ، وكلما ضَجِرَتْ روحُكَ من الأمكنةَ والأزمنةَ وهَمَّتْ بالخروجِ مُتأبطةً النور عادَتْ مكلومةً تنزفُ انكساراتٍ وهزائمَ ورمادًا , وبقيْتَ تراوحُ المكانَ بعدما انطفَأَ بكِ شررُ المغامرةِ ، وكأنَ حدودَ عتبتِكَ التي لا تعبرُها هي أقاصِي مداكَ ..
أقولُ لها : آهٍ يا أُماهُ , في غُربةِ الروحِ لا شيءَ يبعثُ إلى الحياةِ ، والغربةُ بينَ أهلِكَ وناسِكِ أقسى من السيفِ القاطعِ البتَّارِ , لا شيءَ يَمْلأُ بعدَ هذا العمرِ نُقْصَانَكِ ونُقصاني , فكيفَ لي أنْ أُشَيِّعَ ما تبقى من ظلالِنا بحاشيةٍ من ناياتِ ليلِ الباديةِ ؟ ثمَ أمشي مُطَوَّقًا بأوهامي إلى أوَّلِ الأرضِ , لأهويَ قبلَكِ قمرًا أَندلسيًّا مكسورًا في جُبِّ النسيانِ ... 
آهٍ لو تُنزلينَ هذا الأَسَى عن جفونِكِ ! لوْ لا تُحَمِّلينَ نفسَكِ أَوْزارَ أخطاءِ الآخرينِ , ليتَكِ تُؤَجِّلِينَ التَّوَاطُؤََ مع الحزنِ حسرتينِ وتنهيدتينِ .. فإِنِّي أخافُ عليكِ في شيخوختِكِ أكثرَ من أيِّ زمنٍ مَضَى وقد خارَتْ قواكِ , والحزنُ أثقلُ منكِ كيفَ تحملينَهُ ؟ والقلقُ أكبرُ منكِ كيفَ تحتوينَهُ ؟ شاخَتْ الحروفُ على شفتيكِ ، وذبلَتْ الزهورُ على راحتيْكِ ، وما زلتُ أنظرُ إليكِ من بعيدٍ ، لأتفحصَ ملامحَكِ وتجاعيدَ وجهِكِ ، ومع كلِّ يومٍ يمضي أخافُ عليكِ حدَّ التشتتِ حدَّ التَصَدُّعِ كما لم أَخَفْ من قَبْلُ ..
وَيحدثُ أَنْ
يُصيبَكَ المَلَلُ من ذاتِكِ وحتى مِنْ كلِّ شيءٍ , من رتابةِ خُطاكَ في الطريقِ إلى البيتِ وإلى العملِ وإلى أيِّ مكانٍ , فتسائِلُ الدروبَ : أَأنتِ التي تمشينَ معي أم أنا الذي أمشي إليكِ ؟ أتأخذينني إلى حيثُ أرادوا همْ دونَ أنْ أُريدُ ؟! أم تأخذينني معصوبَ العينينِ إلى حيثُ أردتِ أنتِ دونَ أنْ تشاركيني خرائطَ التيهِ , ودونَ أن أعرفَ ماذا ينتظرُني في نهايتِكِ المرجومةِ بالغيبِ ؟ وليسَ جديدًا ذلكَ عليَّ , فما كنتُ يوماً ما أردتُ , ولنْ أكونَ يوماً ما أريدُ !! 
ويحدثُ أنْ
تَتَبَعْثَرَ حواسُكَ وتتوهُ أحداسُكَ حينَ تفقدُ نكهةَ الحياةِ ، وحينَ يخبُو النَّزَقُ في عينيكَ , ويكبُو الطيشُ الطفوليُّ في أوصالِكِ الضعيفةِ , فتصيرُ رهينَ خطاكَ اليائسةِ في كلِّ أَمرٍ , خانعًا خاضعًا لخفايا غدِكِ ، ولبُحَّةِ الصَّدى في حناجرِ أمسِكَ , وكلما بحثتَ عن جديدٍ يلَوِّنُ حياتَكِ الرماديةَ القاتمةَ , تجِدُهُ شاحبًا قديمًا لا يضيفُ إلى حيويةِ عروقِكِ شيئاً ..
ويحدثُ أنْ
تَسْأَمَ من الأحلامِ والرُؤى والنبوءاتِ , ومن الفرحِ بحدِّ ذاتِهِ فتخافُ قدومَهُ إذا حلَّ , وتُلَّوحُ لَهُ بيدِكِ مودعًا حينما يستأذنُكِ بالرحيلِ , فتأذَنُ له وتَرْجُمُهُ بسبعِ حُصِيٍّ , وتتمنَّى في سرِكِ ألا يعودَ ...
ويحدثُ أنْ 
يجتاحَ الضجرُ مساماتِ جسدِكِ وبقايا روحِكِ فيُقَوِّضُها حجرًا فحجرًا ، تحاولُ التَتَشَبُّثَ بتلابيبِ ماضيكِ , فتستذكرُ في مخيلتِكَ وأحاديثِكِ ما مضَى , وتبتسمُ في سرِكِ لذكرى عابرةٍ أو لصورةٍ صفراءَ في الألبومِ , وتتمنَّى في قرارةِ ذاتِكَ : ليتَ الذي مضَى لم يمضِ .. ليتهُ يعودُ صحوًا أو مطرًاً , طفوًا أو غرقًا , أو ربما تتحدثُ للمرايا والجدرانِ عن أشياءَ تنتظرُها وتعرفُ بكُلِّكَ إنَّها أضغاثُ أحلامٍ لن تأتيَ , تكذبُ على نفسِكَ وتصدقُ أتفهَ كذباتِكَ ..
ويحدث أن
تَنْسى حتى مَنْ أنتَ , ومنْ أينَ جئْتَ ؟ وإلى أينَ أنت ذاهبٌ ؟ وتَبْقَى تتساءلُ في قرارةِ تَخبُطِكَ عنْ عبثِ ولادتِكَ ، ما دامَ أَنَّكَ ستموتُ وستسقطُ ورقتُكِ في مهاوي الرَّدى , فتُتَمْتِمُ : لِمَ َأَتْيتُ إلى هذا الكون دونَ أن يستشيروني , أوْ حتى يسألوني !! يسمعُ العابرونَ تمتماتِكَ , فيقولونَ : اللهمَ تُبْ عليهِ .. لقدْ صَبَأَ الرجلُ ..
ومنذُ بعيدِكِ تتساءلُ عنْ ماهِيَّةِ الحياةِ وعنْ كُنْهِ الموتِ كلما عَدَدْتَ أسماءَ الراحلينَ بذاكرةِ الفُقْدِ النائمةِ في كفِكِ , تخطِئُ أحياناً وتنسى أحيانًا أُخرى ,فتعيدُ العدَّ لتجدَ أن عشرينَ أصبعاً لم تعُدْ تكفي لإحصاءِ تعدادِهُم , فتتوقفُ مُرغمًا والدمعُ يذرِفُكَ صورًا عتيقةً على بقايا الذاكرةِ المعطوبةِ .. فتقولُ : إنَ الحياةَ مسرحيةٌ كُبْرَى ,ولربما هيَ مأهاةٌ مُسَطَّرةٌ في الغيبِ , ووارفةٌ بينَ الولادةِ والموتِ , أو بينَ البُشْرى والنعيِّ , أولُها ضحكٌ وملْهاةٌ وآخرُها بكاءٌ ومأساةٌ ..
ضاعَ ذلكَ الطفلُ .. ولمْ يَعُدْ أبدًا إلى خريفِ الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 18 يونيو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.