بقايا رجل محترم ....بقلم هيثم الأمين / تونس
المدينة غاضبةٌ؛
تُصوّبُ، عشوائيّا، نظرات العابرين
إلى صدور المحلّات البلّوريّة،
تقذف كراسي الحانات و المقاهي في وجه الرّصيف،
تنصبُ الأشجارَ لصيد العصافير،
تؤرّخُ صداعها اللّيليّ على صفحة الاسفلت الصّارخَ تحت عجلات السّيّارات
و توصد نوافذها
في وجه الرّيح العابر عاريا،
الرّيح الذي ترك معطفه على كتفيْ حبيبته النائمة في الغابة المطيرة
فدخل المدينة ليسرق أوراق أشجارها
و أكياس البلاستيك من أكوام القمامة
ليواري بها سوأته الطّريّة.
المدينة غاضبةٌ؛
و أنا... أجفّف أصابعي من بلل الوحدة داخل مقهى لا يعرفني !
تسألني طاولة عرجاء،
أسندت مؤخّرتها إلى الجدار حتى لا يبدو عرجها واضحا للكراسي الثرثارة:
لم أركَ، هنا، من قبل، ما اسمك؟ !
أنا... رقم في سجلّ حكوميْ
و أبي اخترع لي اسما لا يشبهني
و حين يستيقظ حزني
تتزاحم أسمائي...
تضحك الطاولة،
تعبّ نفسا عميقا من وجع وقوفها
و تقول:
سأسمّيك "بقايا رجل محترم"
لأنّك تجلس إلى طاولة عرجاء دون متعة جلوس
و دون أن تطلب لها مشروبا ساخنا !
ثم تسألني: أين كنت قبل اليوم؟ !
لقد كنتُ غير بعيد عنّي؛
أبحث عن أرق يشبهني لنسهر معا
فوجدتُني هنا.
تهرش الطاولة رجلها المقوّسة
و تبتسم في وجه كرسيّ غمزها لأنّه لاحظ عرجها ثم شتمته
و تعود لتسألني: كم عمرك؟
أعبّ نفسا عميقا من عطر فاجأ ذاكرتي و أجيب:
عمري
ألفُ كلمة بذيئة شتمت بها شيخ جامعنا
و ألفا كلمة بذيئة أخرى شتمت بها رجلا إدّعى أمامي أنّ الله رحل و تركنا.
تحدّق الطاولة في وجهي
ثمّ في الباب
ثم تسألني:
ماذا تفعل طول اليوم؟
لا شيء، تقريبا؛
أجلس معي، خارج رأسي، و نتناقش.
فيما تتناقشان؟
طبعا، إن لم يكن لك مانع في أن أتلصّص عليكما
و تضحك.
في الحقيقة، كلّ معاركنا تدور في ساحة سؤال واحد
هو: هل سيكلّفنا كثيرا قضاء يوم آخر في هذا العالم؟ !
تأخذ الطاولة منشفة صغيرة من طبق النادل
و تهمس في يدي التي نسيتها على ظهرها:
رجاء، امسحي شهوة قهوة هذا المجنون المسكوبة على ظهري.
لا تلتفت لي
و تسألني من جديد:
هل سيكلّفك كثيرا قضاء يوم آخر في هذا العالم؟
كلّ يوم، أقرّ أنّ قضاء يوم آخر لن يكلّفني شيئا
و حين يأتي و يمضي اليوم الآخر
أكتشف أنّه كلّفني الكثير منّي
و أنّه سرق منّي ما تبقّى عندي من الآخرين !
المدينة غاضبةٌ
و كلّ الأضواء تحالفت من أجل الكشف عن وجه رجل غريب سرق أرق شرفة ساهرة !
هكذا تحدّث النادل إلى الطاولة العرجاء
ثمّ أردف مخاطبا إيّاها :
لا تنسيْ أن تخبري الشّرطة إن مرّبك.
تزمّ الطاولة شفتيها
ثمّ تنظر مباشرة في عيوني و تسألني:
لم سرقت أرق الشّرفة؟ !!
أجيبها مرتبكا:
كنتُ
قد...
كنتُ
حسنا،
لقد كنتُ
...
وحيدا جدا
و كان أرقها يشبهني جدا
...
تدفعني الطاولة العرجاء
و تصرخ:
أُهرب !
لقد كشفوك
أُهرب.. أُهرب
...
هيثم الأمين تونس
بقايا رجل محترم ....بقلم هيثم الأمين / تونس
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
02 مارس
Rating:
ليست هناك تعليقات: