الجنون لا يحتاج لأسباب عظيمة ....بقلم هيثم الأمين



لم تكن تؤلمني وحدتي و أنا وحدي. في طفولتي، كان كلّ شيء في البيت يمكن أن يصير أطفالا ألعب معهم و أثرثر معهم؛ فأختي من أبي كانت تكبرني بعشرين عاما و ربّما كانت تظنّ أمّي عدوتها لأنّ أبي قد تزوجها بعد أن طلّق أمّها و كنت كثيرا ما أشعر أنّها تكرهني أيضا.
في زمن مراهقتي، كانت ورقات مسطّرة و قلم و موجة مذياع تبثّ أغان عربية كلاسيكيّة كافية لأمرّر ساعات طويلة من حياتي عبر ثقب الفَناء.
اليوم، كنبيّ مجهول لم يؤمن به أحد، صارت الوحدة قاتلة رغم الآلاف ممن هم حولي: العائلة، الأصدقاء، الزملاء، المعارف و حتّى من لا أعرفهم شخصيّا و لكن يجمعني بهم شيء ما كفكرة أو ورطة.
طبعا، وحدتي ليست لأنّي متميّز أو سابق لعصري كما يدّعي الأغلبية عن أنفسهم. وحدتي ليست إلّا عجزا عن الاندماج مع الآخرين و عدم قدرتي على فعل الـ "أنا" ربّما...
يرفع منير رأسه عن هاتفه الذكيّ، بعد أن دوّن الكلمات السابقة، و راح يجول بعينيه في غرفة المعيشة.
لم يتغيّر شيء في هذه الغرفة، تقريبا، منذ عشر سنوات، فقط، زوجته، ربّما، تغيّرت قليلا، كانت في السّابق تجلس هناك، على نفس تلك الأريكة التي تجلس عليها الآن، و تقلّب القنوات التلفزيّة بحثا عن فيلم جديد أو مسلسل و اليوم، هي لا ترفع رأسها عن شاشة هاتفها مع تغيّرات واضحة في ملامح وجهها بين الحزن أحيانا و بين ابتسامات باهتة.
عشر سنوات كافية ليصير الصمت ثالث زوجين. صمت تتخلّله بعض الطلبات الروتينيّة و الأسئلة التي لم تختلف الاجابات عنها. عشر سنوات كافية لتكون فيها حتّى لعبة الفراش حدثا ميكانيكيّا يفرضه الواجب/الحقّ دون شغف و دون متعة تذكر.
يطأطئ منير رأسه من جديد و يعيد قراءة ما كتبه ليستردّ حبل أفكاره، أفكاره المشتّتة رغم محاولاته لتجميعها. لم يرقه ما كتبه فمسحه كلّه !!
سابقا، كان يمزّق ما يكتبه حين لا يعجبه. الآن، صار يحدد الكلّ و بضغطة زرّ يذهب كلّ النّص إلى النسيان.
و يكتب من جديد:
قد تنتهي أحلامنا باكرا جدا. نحصل على كلّ ما أردناه ذات يوم و ما يريده رجل مثلي يعيش في مجتمع أكبر أحلامه عمل و زوجة و أطفال؟
لستُ ذلك الشّخص الديناميكيّ الذي يطمح للحصول على المزيد. ربّما، الحاجة هي المولّد الحقيقي للأحلام و ربّما الشّغف و أنا فقدت شغفي منذ زمن طويل.
نعم، نفقد شغفنا بالحياة عندما تجمح بنا فتسلك بنا الطريق الذي لا نرغب به في كلّ مرّة و في النهاية نكتفي بامتطائها و تركها تركض بنا نحو الموت في الطّرق التي تقرّرها هي و نكتفي...
- منير، منير  – تناديه زوجته-
- نعم
- لا تنس موعد الطبيب غدا، لقد اتصلت بي السكريترة اليوم
- طبيب ماذا؟ !!
- افففف، انت دائما تنسى، ابنك بلال يحتاج لنظّارات طبية جديدة
- حسنا.
"حسنا" إجابة جيّدة لإيقاف الحوار دون مشاكل. رغم أنّي محتاج جدّا لأن أثرثر مع رفيقة و لكن لا شيء يجمع بيننا.
رفيقة المتحصّلة على الماجستير و التي قبلت بالزّواج بي، أنا الذي لم أتمكّن من الحصول على الباكالوريا، فقط، بسبب تقدّمها في السن، لا شيء يمكن أن نتحاور فيه أو نثرثر فيه معا و هذا ليس خطؤها.
أولا، انا رجل يعمل في السباكة و لا أفهم في كلّ تلك الأفكار التي تقرأ عنها رفيقة طول الوقت ثمّ إنّي أعود منهكا آخر اليوم من العمل و لا أجد وقتا للمطالعة.
ثانيا، لا يمكن للزوج أن يقول كل شيء لزوجته، ستنصب له الكمائن في أسئلتها و لن ينجو منها.
ثالثا، و هو الأهم، ذلك الرّجل الذي طالما وقف بيني و بينها حتّى في اللعبة كان يجعل رفيقة عصبيّة جدّا كلّما حاولت الاقتراب منها. المرأة لا تنسى أبدا رجلا أحبّته بغضّ النظر إن كان يحبّها أو لا فما بالك برجل أحبّها و لو لا عبوره الحدود خلسة الى بلد شقيق بعد أن قتل ابن عمه خطأ لكان اليوم رفيق رفيقة...
هكذا قال في نفسه و عاد لنصّه ليكمله.
لم يجد ما يكمل به نصّه، خاصّة أنّه نغّص على نفسه بتذكّره لحبيب رفيقة، لهذا ترك هاتفه جانبا و ترك غرفة المعيشة.
اتجه مباشرة لغرفة نومه، أخذ علبة السّجائر و القداحة من جيب سرواله ثمّ انتقل للشرفة.
واقفا، يعبّ أنفاسا عميقة و متسارعة من سيجارته، يحملق منير في الحيّ الذي يبدو، في ضوئه الخافت المنبعث من بعض المحلات و من الانارة العموميّة التي لا تعمل جلّ أعمدتها، كحانة قديمة تقدّم سلعة رخيصة لزبائنا و تنتظر في أيّ لحظة حدوث المشاكل.
هذا الحيّ الذي قضى فيه منير خمسة عشر عاما من حياته لم يعش فيه إلّا غريبا و جلّ علاقاته هنا فرضها عمله. أمّا قريته الصغيرة فما عاد يتذكر منها أحدا...
- إنّي أختنق، هذا الصمت يقتلني، أريد أن أصرخ، تبااااااااااااااااااااا
قال منير ساخطا ثمّ لا شعوريّا، بدأ  يشعل السيجارة تلو الأخرى، يعبّ من كلّ سيجارة نفسا واحدا ثمّ يرميها إلى الشارع و يتابع سقوطها و يضحك.
بدا كرجل ساديّ يطفئ سجائره في جسد انسان آخر؛ و يضحك بعنف !!!!
بعد انتهاء علبة السجائر، دخل منير الى الحمام، تعرّى كاملا، فتح الماء البارد على رأسه مباشرة رغم أنّ الطقس بارد بعض الشيء، فنحن في أواخر فصل الربيع و ليلا، و استسلم للماء و لنوبات متتالية من الضحك حتّى البكاء و من البكاء حتّى الضّحك.
بعد ساعة، ربّما، غادر منير الحمام و ارتدى بدلة لا يلبسها إلّا في المناسبات المهمة ثمّ اتّجه إلى غرفة المعيشة حيث ماتزال رفيقة تجلس في مكانها حاملة وجها بشوشا نوعا ما و دون أن ينبس بكلمة قبّل رأسها المنكبّ على شاشة الهاتف و استدار ليغادر.
انتبهت رفيقة للأمر و أدهشتها قبلة منير و ارتداؤه لتلك البدلة
- منير... أين أنت ذاهب؟
- ...
- منير هل أنت بخير؟ هل حدث مكروه ما؟؟؟؟
- لا شيء، لا تقلقي، سأعود
- منير ما بك؟؟؟؟؟
هذه المرّة، استدار نحوها و اكتفى بابتسامة خفيفة و خرج من البيت...
اليوم، و أنا أعبر إلى سوق الخضار، كان يجلس، كعادته منذ ثلاث سنوات، على المقعد الحجري بجوار دكان "عم محمد" المهجور و يضع عند أذنه اليسرى لعبة على شكل هاتف و يثرثر !!!
منذ ثلاث سنوات، يقضي منير يومه على المقعد الحجريّ و يثرثر، عبر هاتفه اللعبة، في كلّ شيء دون حرج و بصوت مرتفع مع أشخاص يخترعهم حسب الموضوع الذي يريد الثرثرة فيه و ليلا، يدخل دكان العم محمد و كثيرا ما سمعوه يصرخ و هناك من شاهده يطفئ أعقاب السجائر في جسده النحيل...
العنوان: الجنون لا يحتاج لأسباب عظيمة
الجنون لا يحتاج لأسباب عظيمة ....بقلم هيثم الأمين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 13 مايو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.