إثنا عشر نصا للشاعرة التونسية سامية ساسي
ترسم الأربعاء كبيت
____________
كان هناك بيتٌ، ببابٍ وحيدٍ.
رسمناهُ معًا، بأسناننا وأظفارنا،
جدارًا، جدارًا.
سقفًا، سقفًا.
وبحرًا عند كلّ غرفةٍ.
صباحَ الأربعاء العظيم،
نفض يديْهِ من رمْلِ بطني،
لم يقلْ شيئًا،
فتح البابَ الوحيدَ
وغادرَ.
الآن، بعدَ أربعاءٍ آخر،
حفنةُ أسناني في كفّي،
أمرّرُ لساني بين شقوقِ أظفاري، وأبتسمُ:
كان غباءً مني أكلُ كلِّ تلك الجدران لأُغادر البيت.
كان يكفي أن أنفضَ رملَهُ عن بطني،
أفتح البابَ الوحيدَ وعيْنيَّ،
وأُغادر،
فليسَ في المكانِ بيتٌ.
وما من بيتٍ
خلفَ البابِ الذي رسمناهُ، بأظفارنا وأسناننا، معًا.
================================
يحذف الموت بنكتة
________________
تصلني يوميًّا دعواتٌ لحضورِ جنازاتٍ لا
أعرف أصحابها
لا أَرفُضها،
لكنّني أصل مُتأخّرةً دائماً.
هذا الصباح، وجدتُ ” بسّام حجّار”
فقط، في انتظاري.
يقولُ نُكتًا كثيرة بصوتٍ عالٍ
ويُدندِن.
لا أحدَ يعرفُ بوجودِه غيْري.
لا أحدَ يعرفُ ما تفعلُه ضحكنُهُ بمقبرة.
ولا أحدَ يُصدّقُ أنّ شاعرًا مثلهُ، قد
يحذفُ الموتَ بنُكتة.
اليومَ سحَقَ صُرّةَ أشعارِهِ بمُؤخّرته
وقال:
هكذا دفنتُ جميعَ الأحياءِ الذين أعرفهم
أحياءَ
ولم يبقَ غير هذا
وأشارَ إلى القبرِ الفارغِ عندَ قدميه،
ورأيتُهُ.
رأيتُهُ جالسَاً ينتظرُ.
* * *
تقول الحكايةُ، إنّ آخر نكتةٍ سمعتها من
بسّام حجّار كانت عن امرأةٍ نائيَةٍ
تسكنُ بيْتًا عازلاً للصوتِ، شَطرَ البحر.
يُرسلُ إليها يوميًّا دعواتٍ كاذبةً لحضورِ
جنازاتٍ وهميّةٍ
ليكتفيَ برؤيتها تأتي و تضعُ كُتبَه على
حِجرها
وتضحكُ.
عندَ رأسِ الرجلِ الجالسِ داخل القبرِ الفارغِ
ينتظرُ موتهُ
وتنتظرُ.
===============================
هذا الرّجُل يلِدُ يا أبي .
فلا تسأل كم عُمري الآن،
لا تسأل كم مرّةً اقتلعني، هذا الرجُل،
من ضلعِه.
وكم من ضلعٍ كان رتْقًا لخاصرتي
حين أخطو بين شاربيْه.
لا تسألْ يا أبي،
حبلُ السرّة ليس مسبحةً.
وهذه الضلوعُ قضبان.
فانزَعْ عنّي ضلعًا واحدًا!
و سأدسُّ في معطفكَ خيباتي.
فأنا عاقرٌ يا أبي.
و لا شيء في حِجري،
غير ضلوعٍ من صلصال أُربّيها، كلّ سنة،
لأجل رجل يأكلُ من رحمي،
ليلِدني مَسْخًا من حبرٍ،
من حبْر ، فقط ، يا أبي.
========================
بين عثرة وعثرةِ
___________
كنتُ جائعةً وكان عليّ أن أشبعَ يومَ أكلت تلك الدرّاجةُ
من رجلي.
كانت أمّي تقول إنّني قطعةُ حلوى يُلاحقني الذبابُ كلّما ركضتُ.
من قال إذن إنني أحبّ الحريّة البيضاء وأكرهُ الذّباب.
كلّ الذين لاحقوني
لحقوا بي.
ربطوا رجلي إلى السياج ولم يقولوا اركُضي!
ثبّتوا القيد جيّدًا وغادروا.
منذ سنوات أقطعُ رجلي وأتركها عالقة عند السياج
وأركض.
أو أقطعُ السياج وأجرّه عالقا في رجلي
وأركض.
أجملُ الشِّعر كتبته بين عثرة وعثرةٍ
ووجهي إلى الأرض،
تناقلهُ بحّارة يطعمون الدلافين الحلوى،
ويحدّثونها عن امرأة تعرجُ بين المرافئ،
تكتبُ البحر حتى يحلو.
وكانت جائعةً،
وكان عليها أن تشبعَ
قبل أن تأكل الأسيجةُ والذبابُ من رجلها
وتعرج.
============================
حين أكون نائمة
يَنزَعُ أَقراطي.
يضعُ كلّ آذان الجدران على الطاولة.
يَنسى صَوته عند الباب،
ويَصعدُ مع ظَهري.
* * *
ماذا يُريدُ أن يَقولَ،
الشاعرُ الذي يُشيرُ إلى جُثَّتهِ تصعدُ
مع النَّهر؟
* * *
صباحًا،
يستيقظُ الجميعُ بسراويلَ مبلولة،
يتفقّدونَ أصواتهم،
يمرّونَ بسرعةٍ،
ولا أحد يتوقَّفُ ليسأَل المرأةَ البكْماءَ،
النّائمة على بَطنها منذُ سنتيْن عندَ العتبة،
عنِ الرّجلُ الذي يَطوفُ ببيوتهم يسرقُ أصواتهم
ويُعلّقها عندَ بابِها
وينتظرُ منها
صيْحةً بحّاءَ واحدةً
لِيصْعدَ معَ النّهر.
==============================
ظلّ للبيت الخطإ
_________
ماهكذا تنتهي بي الحكاية:
ظلّ مرٌّ بحائط بيت،
لم يترك أثرا،
غير مايتركه ظلّ مرٌّ بالبيت الخطإ.
وأنت تعود إلى " تين بيتك" لم تكن صلبا
انكسرت عند قدميك جذوع الطين.
فما حاجتك إذن؟
تفتح نوافذك صباحا فيتبعك الليل إلى النافذة.
ماحاجتك للبحر؟
الجبل مذاقك الأخير.
فمن يدعس بحرا بحذائه وينجو؟
قالت طبيبتي السعيدة هذا الصباح:
" سنشدّ القشة إلى عشها ولن يسقط الطائر"
الفرحة بالخبر تطحنها الوحدة.
أرأيت كيف يكون للصمت لسان الطواحين.
ثم ماذا؟
الظلال،
الخذلان،
استغفار الرحيل
عشبة النذالة تطول،
التطهر من عاهة الكتف...
من يضلّل امرأة قالت: كتفك، حتى لا أخاف الظل،
فارتطم بالجدران.
ما حاجتي إذن؟
أعد ترتيب بيتك.
وسأعيد ترتيب الحكاية
الأبواب إلى أقفالها.
الطيور إلى سريها
الأشجار التي مزقناها معا
إلى عناقها.
الملح إلى جثتيْه.
والشعر
إلى ظلّه في بيت مرّ به الرجل الخطأ
ولم يترك أثرا.
ثم ماذا؟
لم يكن جبانا
من ضلّ عن امرأة قالت:
" السرطان" شجرة الله في جسدي
فلا تكن ظلّها!
وأغلقت البيت.
==============
فزاعة
___________
لو أنّني عَجوزٌ أكثر،
لَغيَّرتُ مقاساتِ أطرافي.
لََحفظتُ وجهي المُسطَّح، من الصَّدإ.
فمي المفتوح، من اليرقات.
ورأسي الصّلب،
من غربان تضع بيْضها،
وتدعو عليّ بالخرابِ.
* * *
لو أنّني عجوزٌ أقلَّ،
لَعشقتُ مُزارعًا بأنيابَ ذهبيّة،
يُهديني أمشاطًا تُعيدُ الحقولَ إلى شَعري.
وكلّما داهمهُ الجرادُ وحيدًا في تربتهِ القاحلة،
يأتيني راكضًا،
يدسُّ رأسهُ في جذعي الصامتِ،
يضمّني،
يهزّني غاضبًا،
ويبكي ملْء أنيابِهِ
يديَّ المفتوحتيْن كصليبٍ للريح.
* * *
في مواسمِ الحصاد و الجنازات الكبرى
يُقسم مُزارعونَ يَروْن اللهَ في صلواتهم، أنهم شاهدوا فزّاعةً من قشٍّ
تضمّ يَديْها مغمَضتيْن إلى صدْرها،
وتَذروها الريح.
============================
النص ولوحة الغلاف، من النبوءات التي أتتني قبل أن يأتيني ذاك النبأ
مبتورةُ الأطرافِ
ــــــــــــــــــــــــ
عارضةُ أزياء بيدٍ واحدة.
طويلةُ القامةِ كصفصافةٍ
يُمكنني أن أزحفَ على بطني،
أكسِرَ أظفاري في شقوق الجدران
حينَ أخضرُّ وحيدةً على عتبة الموانئ.
أنا، الصّلعاءُ التي تُغني في أرصفة قاحلة،
يُمكنني أن أُقبِّل الله حين أُصلّي،
أنزفَ من عينيَّ حين أعطش
وأُنجبَ عميانًا وشحّاذين يغفرون لي.
أنا،
عارضةُ أزياء
مبتورةُ الأطراف كصفصافة،
يُمكنني أن أقطعَ يدي
لأجل شاعرٍ بيدٍ واحدة،
أراد في نهاية العرض أن يُصفّقَ.
لوحتا الغلاف للرسام بهرم حاجو
======================
رأيتُ رجالاً يحملونَ نساء يتقاطرْنَ فوق ظهورهم.
رأيتُ نساء بظهور عاريةٍ ينفضْنَ شُعورهنَّ عند عتبتي.
رأيتُ صبايا يُخضّبْن أيديهنّ ويصفعْن بحنّاء أكفّهن جدران غرفتي الضيّقة.
رأيت أطفالا يتبوّلون عند رأسي ويرجمونني.
لم أكن مزارًا، لكنّني رأيتُ كلّ هذا.
رأيت ما يفعله الجنّ والإنسُ بالأجساد المسجّاة عند قدميّ.
ما تفعلهُ الشياطين الخبيثة بالرؤوس الحليقة التي تتمسّح بثوبي.
ما تفعله الأرامل والعوانس والعاقرات بشَعري وأظفاري .
ما يفعلُه تُقاةٌ يقبّلون رُكبتي.
رأيتُ وجوها وشفاها وعانات.
رأيت الأعمى ينظُرُ في عيْنيّ.
الأبكم والأصمّ والكسيحَ الذي يتسلّقُ جذعي.
لم أكن مَزارًا، لكنّني رأيتُ كلّ هذا.
ورأيتُه
يزورني كلّ ليلة
بعاهةِ الكتفيْن، يسحبُ عنّي الملاءة الخضراء،
يحذف وجوهَ المنامِ من حولي،
هلوسات الأدوية وخدر الأدعية
ويوقظني.
لا يقولُ: انْهضي!
يجمعُ أطرافي العاطلة، يحملني معه ويغادر.
ولم أكن مزارًا، لكنّني رأيتُ،
رأيتُ رجلا بعاهة الكتفيْن يحمل امرأة تتقاطرُ فوق ظهره ولا يراها.
رأيتُ امرأة تنفضُ عن كتفيْها، رجلاً يتقاطر كلّ ليلة فوق ظهرها.
وتنهضُ.
===================================
سأظل أعود بلسان الشعر.
لأنني أعجز عن الرد على كمً الرسائل التي
وصلتني وأعتذر بخجل؛ أقول:
أنا بخير. وبعضة شفة أقاوم حصص العلاج
الكيميائي ومضاعفاته وأكتم الأوجاع المقيتة.
وأواصل ماراطون الفحوصات والتحاليل
وصور الأشعة في انتظار العملية الجراحية قريبا.
وأنا بخير؛ أعود بلسان الشعر.
وما أكتبه إليكم أكتبه بلسان الشعر. فاقرؤوه
بلسان الشعر فقط.
وسأنهض؛ ليس لأنني أتساقط بل لأنني أجثو أحيانا
لألتقط الفرح الذي تبعثر مني وأنا أنفض هذا
الخبيث عن كتفي وأنفض عن حجري من
تساقطوا منه خيبة وخذلانا وأنهض.
وسأظل أعود رغم التعب حتى يزول التعب
فلا تلقوا على كتفي عباءة الاستلطاف مع كل
نص فأنا أنفضها عني كلما فررت إليكم من غرفي
الضيقة ومسكناتي اللعينة.
أنا بخير مادام في العمر لسان شعر وابتسامة
شعر وأصدقاء يقرؤونني بخير ولا يحولون
حائطي هذا إلى مبكى.
أحبكم .
=================================
صلعاء أخيرا
___________
صرت صلعاءَ الآن
رأسي الصغير كبرتقالة،
أقذفها إلى الشّمس، فتعيدها إليّ
ونكرّر اللّعب مرّات.
( كم لذيذة قبلة النور، مباشرة، على رأس امرأة تفقد شَعرها فتقذف السماء بالقبلات)
أولادي، أبناء شمس.
حَلَقوا رؤوسهم هذا الصباح
لنتقاذف معا ذات البرتقالة.
حبيبي، أصابعه ليليّةٌ
ألاعيبه غير ألعابنا
عند البدر، يقشّر عنّي السّواد،
نتقاذف الشّعرَ..وما يَخْفى
حتى لم يبقَ مكان لتثاؤب الشمس على جسدي.
( كم لذيذة كتابة الشّعر، مباشرة، على رأس امرأة تفقد شَعرها فتقذف الموت بالبرتقالات)
أشباح الشاطئ تقطّع شعورها الآن
لأن امرأة البحر قذفت إلى البحر
ضفيرتها الطويلة،
ولبست الشّمس قبّعةً.
==========================
=====================
مَن يَبيعُني زهرةَ كستناء أخرى؟
البارحة، عبرتُ الجسر حافيةً،
كانت الريحُ باردةً في فراشي،
كان النبيذُ نتناً في الأفواه العاشقة، الشعرُ، أيضا،
لفافةٌ مبلّلة بين أسنان نخرة.
صديقي الصامتُ كجسرٍ، قال:
خُذي وردةً واعبُري!
قال أيضا: لا شيء تفعلُه وردةٌ حمراءُ بجسر.
وكانت نافذتي بلا ستائرَ،
ورأيتُهُ،
رأيتُ الجسرَ ينحني،
فقط،
لأن زهرة كستناء بريّة،
حين عبرتُ حافيةً،
سقطت من شَعري
في قاع الفراش البارد.
(٤٣-٤٤ لا تلتفت لنراها)
إثنا عشر نصا للشاعرة التونسية سامية ساسي
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
29 يونيو
Rating:
ليست هناك تعليقات: