صُنع في وطني و نصوص أخرى للشاعر السوري ماهر محمد
صُنع في وطني..
1- أوتعلمُ أكثر مما أعلم..
قل لي يا صاحبي
أوتعلمُ أكثر مما أعلم..
أوتعلمُ أن النار قد تبدأ
بعود ثقابٍ أحمق..
أوتعلمُ أن الليل
يُشبهُ نهار مدينتنا
لكنه بلا شمسٍ تُذكر..
أوتعلمُ أن بلاداً تملكُ أرغفةً
أكلت بلاداً لا تملكُ كسرة..
أوتعلمُ أكثر مما أعلم
قل لي يا صاحبي ولا تدّعي أنك لا تعلم
أن الدُجى مرّ بياسميننا مُدّججاً بالصمت
كي لا يضحى رهينة
نعم كان يمشي على أصابعه خلسةً
فكبرنا أكثر مما ينبغي
بعد أن داهمنا الوقت..
أنت الآن تُثبتُ لي أنك لا تعلم
أن التماسيح في مُستنقعاتنا
ما كانت إلا نباتية
وأن نقيق الضفادع من خلف الكواليس على يابستنا
التهمتنا دون رحمة..
قل لي يا صاحبي
قل لي
أوتعلمُ أكثر مما أعلم..
******
2- نافذة رعب..
شعورٌ غريب يتملكني
وأنا أُقف على النافذة
أتأمل ذلك الهدوء التام
وظلام دامس
لا يخلو من بريق عيون القطط والكلاب
وخيط ضوءٍ رفيع
مصدره ولاعة طفلٍ يُنقّبُ في القمامة
لا أنكر أن المشهد مخيف جداً
تسارع في ضربات القلب لم أعهده
هذي البلاد ظلامها دامس
ولا مثيل له..
******
3- خطيئة كُبرى..
لا شيء
إنهُ البخار يعبق بالمكان
والزجاج مُلّطخ بماء تكثُّفه
لا شيء
إنه رأسي الذي يستندُ على الجدار
ووجهي للأسفل
أُنصت لانهمار الماء وتسابيحه
وشريط الذكريات مرّ سريعاً كقطارٍ في محطة
لا شيء سأراهُ من خلف الزجاج
إنهُ البخار يعبق بالمكان
والزجاج مُلّطخ بماء تكثُّفه
بملابسي الكاملة.. أغتسل
ولم العُريّ؟
طالما أن لا شيء فعلاً
يغسل إثم الإنسان..
******
4- تشابه..
لينام المرء في وطنه،
يحتاجُ إلى وسادةٍ محشوّةٍ بالكرامة
ومن تحتها
مسدس كاتم للجوع ليس إلا..
أعرفُ رجلاً لا يملك في وطنه
إلا خانة بمساحة
ثلاث سنتيمترات
بسنتيمترٍ واحد
تكبر أحياناً
وتصغر في مناسباتٍ أكثر
كل ذلك بكبسة زر..
في مرّةٍ أخذوا هويّتهُ
عادوا إليه وأخذوه
وحين سأل عن السبب
قالوا : تشابه فقر..
----------
ألقاك في الآخرة..
الآن.. يبدو كل شيء مثالياً جداً لارتكاب جريمة..
عقارب الساعة تتخذ وضعية الهجوم لتلسع صدري
ودسّ سمّ الوقت تحت جلدي..
أسترجعُ ذكريات سريعة
مُحّملة على عربات الفوضى
مرّت من هنا سابقاً..
لا لشيء..
ربما لأعطي النفس هُدنة
مع وسوسة السكاكين
وامتطاء ظهر النهاية..
هل كان عليّ أن أعدّ إلى العشرة
إلى الألف
إلى ما لا نهاية
قبل أن أُحبك..
قبل أن ينهال علينا سقف السماء..
قبل أن تدّكه التقاليد العائلية على رؤوسنا..
حسناً..
الساعة الآن الواحدة صباحاً والعقارب تراقب صدري
وأنا أراقب من النافذة..
عربة فوضى تقف أمام منزلي الآن..
واحد..
إثنان..
ثلاثة..
الجرس يدّق
رسالةٌ على عتبة الباب :
"ألقاك في الآخرة.. أحبك"
ألتفتُ خلفي..
أجد السكاكين تبتسم في وجهي..
-----------------
زيارة مُفاجئة..
طيفك جاء في ساعةٍ مُتأخرةٍ من القصيدة
أتتني كلماتك تسبقها.. مُهرولةً
تتعثّر في عقلي بمطبّات السهر..
سريعاً.. لملمتُ منفضة أوراقي
وأعقاب أقلامي المُتناثرة
على طاولة القلب..
وخبأتهم في رموش عيني..
وقبل أن تدّق قبلاتك
باب الشفاه الناعسة،
أشعلتُ شمعتين..
واحدة لك وواحدة لك..
أما أنا.. فيكفيني ذوبان جسدي حين اللقاء..
سأرّج قارورة شمبانيا.. لأحتفل
نعم.. سأحتفل باحتساء شفاهك الليلة
شفاهك.. التي تُثملُ حدّ الصُداع..
قولي لي بسم ابتسامتك العريضة تلك :
من سيرسم لنا شارعاً
يُوصلنا إلى السرير ؟..
---------------
وحدها أمي
تعرفُ كيف تزرعني
وأنا أرض محروقة..
*****
كانت أمي
تأتي بطحين آلام المفاصل
وتضيف له حليب المرارة
مع رشّة سكرٍ من داء السكري
وقليل من التهاب الأعصاب..
كانت تعجنهم بشكلٍ جيد،
لتخبز لنا الفرح..
تُخّمرها جيداً لتكبر
وتكفينا جميعاً..
كنا نجلس حولها
نأكلُ الفرحة
تلو الفرحة
ساخنة وطازجة..
إلا هي!
لانشغالها بنا..
لم تتذوّقها
إلا باردة ويابسة..
*****
لا أعرف لما أكتب الشعر
أنت أمامي ها هُنا وذلك شعر بحد ذاته
هل لخدر اليد علاقةٌ بالأمر
أم أن ضُرّتك الكلمات
التي تحوم في الرأس كذبابٍ حول جيفة..
الكلماتُ تنغز في الجلد مثل الأُبر
صدقيني لستُ أنا من أكتب حين أكتب
أتحوّل لشخصٍ آخر
أعرف أني غير مرئي
شخص ما يمسك بيدي
ويكتب عني
يتحدّث عني أيضاً
حالة تأمل تامة
أُُغمض وأُتمتم
مرّة واثنتان وثلاثة وربما عشرة
هنا.. أراك مذهولة وأنت تقفين إلى جانبي
حاملةً فنجان قهوتي الذي برد
حدّ برودة أعصابي
حسناً.. أعيدي تسخينه يا عزيزتي
لم أكن معك
مشواري طويلٌ جداً ولو لدقائق
أراه بعيداً ولو كان في آخر الممر
ولو كان بين عينيّ..
وأنت واقفة هناك لا تخترعي حركات تُلفت النظر
قد تقع عيناي على عينيك
وقد أبتسم لك أيضاً
لكن تأكدي بأني في مكانٍ آخر
وفي زمانٍ آخر
قد أكون في ملعب كرة قدم
أو مع الفراعنة
أو في الحرب العالمية الثانية
أو في غرفة فندق مع مومس
قد أكون في الشتاء
تحت المطر أو فوق غيمة لا فرق
أو أكون في الساعة السادسة من يومٍ مُشمس
لا تغاري ولا تنفعلي
أنت مُلهمتي وحبري السريّ
أُحبك.. وهذا كافٍ جداً لي
لأعرف لما أكتب..
"من مجموعة نصوص هلوسات" وخاص بشريكة حياتي..
*****
أمطار القصائد..
رتّب الكلمات فوق بعضها
واصعد الدرجات..
تشبّث بأول غيمةٍ تقابلها
ولا تدعها تُفلت منك..
فلربما هي من تكون
المحّملة بأمطار القصيدة..
إن هطلت الأمطار!..
لا تستخدم أبداً مظّلة..
اتركها تبلّل مخيّلتك الجافّة
وتروي عطش صحراء عقلك المُتفطّر..
ستُهاجمك بعد ذلك حمّى القصائد
سترتفع حرارة دماغك
وتسري القشعريرة إلى يدك
وتنخفض حرارة الحبر
وتصاب بتعرّق الكتابة..
سيغلي قلبك
ويفور دمك..
ستهذي كالمجنون بالكلمات
وتُهلوس باللّغة
وستسيل المعاني بلا عودة
ستلحق بكلمة من هنا
وترجع بأخرى من هناك
ستكتب بخطٍ غير مفهوم،
لتلحق فكرة ما..
وإن لزم الأمر،
وتعبت من المطاردة!
إسحب مسّدسك المحشوّ بمهدّئات التوّتر
وأطلق النار عليها من الخلف ببرودة أعصاب
كي لا تغادرك..
أنصحك بفأس مشاعر حادّ
أُدخل به الغابة
واقطع كل حرفٍ يصادفك..
لا تتردّد وكُن قاسياً..
حتى إن كان الحرف مشلولاً
إقطعه..
سيتعافى فيما بعد..
لكن إن لم تهطل!..
أفلتها،
وستدفعها رياحٌ عاتية كالصُداع
لغيرك..
هناك من هم مثلك
يقفون على عتبات الكلمات
ينتظرون الغيمة ليتشبّثوا بها..
ستصبح مكشوفاً للشمس..
إفتح المظّلة حينها
واحمي رأسك الجافّ
ولسانك الجافّ
وقلمك الجافّ
من ضرباتها..
وانتظر غيمةً جديدة
محّملة بأمطار القصيدة..
"مكرر حيث أن الأم شعر والشعر أم"
------------------
خوف..
لديّ ولدان
والخوفُ ثالثهُما..
يعيشُ معنا
ويأكلُ مثلنا..
إلا أنه يُفّضل طبق الحاضر والغدّ..
يلعبُ معهُما،
لهُ نصيب كبير من سلّة الألعاب
وسريرٌ فارغ..
مثلهما تماماً
أبتاع له السكاكر وحلوى الكولا..
أسيرُ بهما إلى الحلاّق
فأصطحبُه معنا لأُشذّب أطرافه..
أقطعُ لهُ التذاكر
في مدينة الملاهي..
أذهبُ إلى المدرسة
بعد أن استدعتني الإدارة كوليٍّ لأمره
لأن الخوف كسر نظّارة أحد التلاميذ
في الفُسحة دفاعاً عن أحدهما..
كبُر أولادي
وكبُر الخوفُ معنا..
صرنا جميعاً نُنادي على الخوف :
يا أبي..
------------
عتاب وفقر وغُرفة ضيقة..
عتبي على نافذةٍ
سرّبت كل التنهيدات
عبر إطارها إلى الخارج..
عتبي على بابٍ
كلما أخذ أحدٌ ما غيري بقبضته
سار معه..
عتبي على جدارٍ
علقتُ عليه صور الأحبة
فخانني مع المسمار وتشقّق..
عتبي على وقتٍ
أُقلم أظافره
ويستخدم ظهري ك مبرد..
عتبي على نهارٍ وليلٍ
ودفاتر أشعار
على سجائر لا تقتل
وخمرٍ لا يُسكر..
عتبي عليك يا رجلاً مللتهُ
ويقطن معي بلا فائدة..
قالت وحدتي..
*****
سبقهُ الأصدقاء..
رفاق الدرب لم يأخذوه معهم
وها هو يتخبّطُ في الحياة
كجنينٍ في بطن أم
وكمطرٍ في رحم غيمة
تعسّرت ولادتها لأسبابٍ مجهولة..
ربما.. وأقول ربما عرفتُ السبب..
سبقوه إلى الآخرة
وقالوا له : إتبعنا..
السؤال هنا
كيف يتبعهم؟
وهذا الإسكافيُّ طيلة حياته
كان حافي القدمين..
*****
اللعنة على تلك الغرفة الضيقة
على جدرانها وسقفها وأرضيّتها
بأبوابها ونوافذها..
من هنا مرّ أحبابي وغادروا
كصالة ترانزيت
وهنا دفنتُ أعدائي
كمقبرة
وكمقهى شربتُ القهوة
ودخنت.. حتى اصفرّت الجدران..
هنا زارتني أرقامٌ وأرقام كمصرفٍ..
هنا نمتُ واستيقظتُ على وحدةٍ دامسة
لا تنيرها إلا فكرة كسجن..
هنا مرّت نساء كماخور
وأسراب طيورٍ مهاجرة كغابة..
هنا مرّت حروب وحروب
كوطني..
هنا.. اللعنة على هنا
على هذه الغرفة الضيقة
التي تدعى رأس..
--------------'
قبل بدء الكون..
كنتُ مشغولاً
بنحت خصرك الميّاس
تماماً كآنية من فخّار..
رأيت الله كيف ابتدع آدم
قبل أن أُخلق ( أموت فيك)
ففعلتُ مثله
فجئت أنت
على هيئة جنّة..
ولأكون أكثر دقةً
البارحة..
حين ركضت على أصابعي
غرق العالم..
توّقف الزمنُ في ساعة يد لشاعرٍ
حاول بكلّ ما يملك من حزن
الكتابة بعقارب مُتوّقفة..
فانخفض الماءُ
ونجت الكائنات
بما فيهم أصابعي
التي لبست حرير جلدك
كسُترة نجاة..
شاعرٌ احتسى قهوة حياته المُرّة
لأكثر من أربعين عاماً
حتى ظهرت له في فنجانه
وهذا ما يُفسّرُ فزعهُ المفاجئ
وانسكاب الحب في أحضانه..
أرفعُ الراية البيضاء
لعلمي المُسبق أن لا قُدرة لي
على اقتحام عينيك
تلك الجواهر الثمينة التي شكّلها اللهُ
حين كنتُ مشغولاً
بنحت خصرك الميّاس
تماماً كآنية من فخّار
قبل بدء الكون..
-----------
محطّات لعابر سبيل..
1-
لستُ مضطراً لإثبات وجهة نظري لأحد
لا للغزلان الشاردة
بين خصلات شعرك
هروباً من قطيع أناملي..
ولا لذلك الكنز في صدرك،
الشامة المُختبئة من معول عينيّ..
ولا لقطرات العرق في غياهب سُرّتك
إنها من البديهيّات،
أنا عابر سبيل
فاسقني ولك الأجر..
*****
2-
العالم صغيرٌ جداً يا عزيزتي
كرحلةٍ..
كقطارٍ غادر سكة العاشقين
ودهس القرى..
كمحطةٍ لم يصل إليها بعد
ليدٍ تُلّوحُ في الفراغ..
ك ثغرك.. حين ألتقي به
ما أن ينطق أحبك
ويُقبّلني
فأصل..
كقطارٍ لم يدهس قرى..
لمحطةٍ..
ليدٍ لوّحت طويلاً
في الفراغ..
كرحلةٍ من بعيد
قلت لك سابقاً ولم تُصدق
هذا العالم صغيرٌ جداً..
*****
3-
لا تستغربي وأنا أُقبّل الشواطئ
وأرصفة الموانئ
والسُفن
والقوارب
وسُتر النجاة
والنوافذ
وحكايات البحّارة
إن قبّلتُ النوارس
والأبواب الموصدة والمفتوحة
وأكواب القهوة
والأوراق
والأختام
والكونتينارات
والروافع
وإن مسحت على رؤوس الموظفين وقبّلتهم
لا تستغربي
لأني نذرت كل ذلك
إن أنت من هناك
عدتِ..
*****
4-
غير مُصدقٍ لما حدث
أتحسس بأصابعي شفتيك
كلما نطقت أحبك..
وبصوت خافت،
قبل أن تنطقي بكلمةٍ أُخرى
أقول : اشششش
وألتفت
وكأني أُنصت جيداً
لصدى الكلمة..
كمن يبحث عن المصدر..
" فقط.. وأريد أن أبكي"..
--------------
ينمو سرابك
على حائط حزني..
يتسّلق سريعاً
كتجاعيد عطشى
على وجه أمي..
أخذتُ من أبي البساطة
وبذارة الحب
فأنا رجلٌ فلاح
لا دراية لي بالمرشّات
وعمليات التنقيط..
الفطرة علمتني
أن أفتح جداول الدمع على بعضها
لتروي سرابك..
سرابك الذي صار غياباً
على شكل داليةٍ فيما بعد
بلا ثمارٍ ولا مظلّة
تقيني ضربة طيفك..
---------
ليست هناك تعليقات: