اعتراف.....بقلم مروى زيتوني / تونس


لا أنكر أنّه يغزو تفكيري قبل النّهوض من النّوم،و قبل تسلّل رائحة القهوة الصّباحيّة، و قبل انبعاث صوت فيروز من مذياع قديم تحتفظ به جدّتي منذ عشرين سنة،كان هديّة ثمينة من جدّي رحمه الله.كانت تعتني به جيّدا..كلّ يوم تأخذ منديلا و تمسح عنه الغبار الذي غزاه.
رفعت صوتي بتحيّة الصّباح فردّتها جدّتي من خارج الغرفة"صباح الخير حفيدتي لماذا استيقظت باكرا؟" ثمّ أضافت هامسة ليذوب قولها في صوت المذياع" أعددت العصيدة بزيت الزيتون كالتي كان يحبّها جدّك.
نهضت من الفراش و بقيت أردّد في نفسي" غريب أمرها مازالت تتذكّر الماضي بأدقّ تفاصيله و تنسى عشاء البارحة"، ناديتها بصوت مرتفع لأنّ سمعها أصبح ضعيفا..تعالي نأكل العصيدة أحبّها ساخنة.
اتّكأت على الحائط بيدها اليسرى عند دخولها الغرفة كانت تتضمّر كثيرا و تقول" يا رسول الله عتبة الباب عالية و ركبتي تؤلمني"،كانت تلفّ حول رأسها عصابة حمراء تحميها من الصّداع الذي يصيبها بالشّقيقة، كبرت جدّتي و انحنى جذعها..جلست فوق الجلد و أسندت ظهرها للحائط حتى كادت تلامس ركبتاها كتفيها..نفضت بقايا التّراب العالق بملحفتها السّوداء.. أمسكت الملعقة بيدها اليمنى المرتجفة المشرفة على الرّعدة..سالت قطرات الدّمع من عينيها متعرّجة تتبع أخاديد التّجاعيد فمسحت وجهها و رفعت عينيها الذّابلتين قائلة": شابت قُصّتي..بعدما كانت الخصلات تنساب غزيرة سوداء فاحمة كريش الغراب..فمنذ وفاة جدّك-رحمه اللّه- عبس هذا الجبين و بكت هذه الأعين و سهرت حتى خفت بريقها..العمر ولّى و الغالي بعيد يا حفيدتي"
انهمرت دمعة حارقة خدّي.وضعت الملعقة من يدي في شقالة العصيدة.قلت يا جدّتي أحبّك كثيرا و لكن الحقيقة أحبّ جدّي أكثر عذرا .
نظرت إليّ و تبسّمت،لم تهمس بحرف،فهمت من بسمتها أنّها تحبّني هي أيضا لكن تحب جدّي أكثر.
كانت حياة جدّتي في غياب زوجها تتلخّص في الشّرود دائما فيطفو فوق همّها اليوميّ كنوم سطحيّ لا يسمح بالارتخاء و الحلم الذي ترى فيه زوجها الذي غيّبته الأعوام.
لا أنكر أنّه أحيانا يكون الفكرة الأخيرة قبل النّعاس و أنّه كلّ الأفكار في كلّ الأوقات..أذكر ذات صباح، أردت أن أعدّ كوبا من القهوة تركته يفيض غير آبهة لرائحة الاحتراق المزعجة..يا ترى أيّ سبب مقنع لشرودي هذا؟ أحياناً أرسم مشاهد وهميّة و أختلق حوارات مستحيلة الحدوث و أحيانا أبتسم خلسة لأنّ أحدهم نطق اسمه وسط حديث عائليّ.
لا أنكر أنّني كلّ يوم أعيش ذاك الصّراع بين عقل ينادي تجاهلي نداء العاطفة و المشاعر و قلب كالمريض يئنّ و يصرخ..لكنّني سأحسم هذا الأمر.
"اعتراف"

مروى زيتوني.

اعتراف.....بقلم مروى زيتوني / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 23 يونيو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.