بوح ......بقلم مروى زيتوني / تونس




التقيت بها ذات مرّة في ذاك الحقل،كانت في مقتبل العمر في أنشط أوقاتها و أحسن لحظاتها، كانت بريئة جدّا ترقص دون خجل،تنطّ كالفراش بين الزّهور، تشدو كالعندليب...لكن هذه المرّة حينما التقيت بها ثانية،كانت تمشي حافية القدمين غير آبهة لألمهما، ما خطبها يا ترى؟ما الذي حدث؟
اقتربت منها و همست في أذنها، هل أنت بخير؟ تبسّمت و تنهّدت ثمّ قالت:" طُرقَ بابي ذات مساء و يا ليتني ما فتحت!
استغربت الأمر فعاودت السؤال،ما الذي حدث؟
قالت:" خنت طفولتي البريئة و يا ليتني ما فعلت. كنت لا أعرف عن الحبّ شيئا غير عشقي للشكولاتة و الكعك اللّذيذ الذي تعدّه أمّي.. كنت أعرف عن الحب أشياء قليلة لكنّها جميلة ،إنّها أمّي و بسمتها و حضنها الدّافئ،
الحبّ حينما كنت ألبس ميدعتي و أحمل محفظتي الصغيرة و أسير بخطى ثابتة نحو المدرسة..الحب حينما كنت ألعب في ساحة المدرسة لعبة "الغمّيضة" ، الحب حينما كنت أتطلّع في وجه معلّمتي الصّبوح.. كنت أتتبّع كلّ تفاصيلها حينما تنشد لنا أنشودة الأمّ و تطلب منّا حفظها..حينما كانت ترتدي ميدعتها البيضاء و تحمل في يدها اليمنى حقيبتها السّوداء المصنوعة من الجلد،حينما كانت تخطّ بأناملها النّاعمة على السّبورة تاريخ اليوم و مادّته..كنت أتطلّع في عينيها البنيّتين و أقول ليتني أصبح مثلها.
كان الحبّ جميلا،بريئا،طاهرا،نقيّا "و لله ما أحلى الطّفولة"و ما أعذب الحبّ حينما كنت أقرأ تلك القصّة الجميلة"الثّعلب و الغراب" و ما كانت قطعة الجبن تلك إلا سببا في القطيعة بينهما،كنت أغضب حينا و كنت أبكي حينا آخر. أقطعة الجبن تلك جعلتهما عدوّين؟ ثمّ أصبحت أعي اليوم أشياء بسيطة تفرّقك عن الآخر تماما كقطعة الجبن تلك.
ما عاد الحب بريئا كما عهدته-حلو الكلام الذي جمعني بذاك الفتى الذي أحببت ذات مساء، الذي خلته فارس الأحلام بل ذاك الملاك الذي نزل من ثغور السّماء ليبيّن لي بطل البشر لكن نسيت إنّ بعض الظّن إثم- ها اليوم أبعدني عنه.
تعجّبت و قلت:"كيف؟
ضحكت باستهزاء و قالت:"مؤلم أن يخونك الحب و الأكثر ألما أن تقتلي ذاك الحبيب اهتماما،فيقتلك إهمالا،أن تخبريه بأنّ حياتك تستقيم فقط حينما يبدأ يومك بهمسه و في نهاية اليوم تختمين به..حينما تنظرين إلى الهاتف الجميع يتّصل إلا هو لم يتّصل.
تخبريه أنّك أحببته بقلب أمّ لا تنام حتّى يعود ابنها سالما من عمله،أحببته حبا لم تفهم البشريّة،لكن دون جدوى لا يفهم هذا.
غلبها النّعاس ..ربّما أرهقها التّفكير كثيرا ..فهي كثيرا ما تتساءل السّؤال تلو الآخر، يا ترى هل مازال يفتقدها؟هل مازال يحنّ إلى رسالة منها و لو كانت فارغة؟ هل مازال يضع يده على  قلبه كلّما تذكّرها؟ هل مازال يشرب القهوة مرّة فقط قطعة واحدة من السّكر تكفيه؟ أ حقا تسع سنوات مرّت ؟لكن لا أحد يجيب.
أفاقت من غفوتها و صرخت كلّ الذي كان مجرّد كابوس مزعج انتهى مع اليقظة..فما الحب ذاك إلّا عاصفة ثلجيّة تجتاحك فترتعشين حتّى تكادي تقضمين أصابعك..أصبح تماما ككوب القهوة الذي ظلّ يفقد دفئه تدريجيّا.
افترقنا إذن..لكن ليس رحيله المفاجئ هو ما آلمني..بل اليد التي دفعتني و كنت وثقت بها هو ما حطّمني..ليس ضياعي في متاهة الحياة هو ما أخافني و لا الظّلام الذي أهابه هو ما أرعبني بل سرقته لبسمتي البريئة هو ما أطفأ طمأنينتي.
فاليوم سأحمل جثمان ذاك الحب  على كتفي و أسير  به نحو البريّة لأطمره هناك حيث الزّهور و النّبات.
ربّتت على كتفها و قلت:"ودّعي الماضي مهما كانت روعته..و لا تبذلي جهودك بخطّة الاهتمام البلهاء..لا تتّصلي ثانية تريدين الاطمئنان كتلك الأم المفزوعة.. لا تحاولي أن تغيّري الحقيقة و لنفترض أنّك نجحت يوما في ذلك.. أليست في كلّ حرب خسائر جسيمة؟
فما فائدة أن تكتبي لمن لا يقرأ رسائلك الطويلة و لا يفهم فكّ بعض شفراتها..أليست هذه خسارة آليمة؟
"بوح.."

مروى زيتوني
بوح ......بقلم مروى زيتوني / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 24 يونيو Rating: 5

هناك تعليق واحد:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.