أنا" و أنا ليوم واحد .....هيثم الأمين / تونس



"أنا" و أنا ليوم واحد
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الذي
يجلس، منذ إثني عشر عاما، في الزاوية
كتمثال حجريّ سيّئ النّحت هجره ناحته و لم تغمزه بعيونها، العالية الدّقة، الكميراوات الرّقميّة
ما كان، يوما، "أنا" الذي قضيت لأجله أربعين عاما أمارس الأكل و الشّرب و أعود لأجل صحّته الأطبّاء.
هذا الذي
يقبع، بين جدارين، ككيس قمامة ينتظر أن تنبشه القصائد الشّريدة
أو أن تبعثره أياد جائعة لوليمة حروف مستعملة
ما كان، يوما، "أنا" الذي قضيت لأجله أربعين عاما هاربا من الموت و معلنا إخلاصي لقيود الحياة.
هذا الذي
لا يكفّ عن تدوين أسماء العابرين على صعيد صدره
و لا يملّ تقمّص دور الأشجار على أرصفة الانتظار
ما كان، يوما، "أنا" الذي قتلتُ لأجله توأمي
و لأجله عقّمت رحم أمي حتى لا تصيبه ولادة جديدة
لأعبر الحياة خفيفا من الآخرين.
هذا الذي
نسي وجهه معلّقا على صدر امرأة تتقن الرّحيل كما تتقن الحزن
و أدمن تدخين ذاكرته و تقمّص دور غيمة ماطرة
ما كان، يوما، "أنا" الذي قضيت لأجله ربع قرن و أنا أعلّم قلبه كيف يكون أميّا في الحب
و كيف تتقن أصابعه عزف الوحدة و الافلات من النّساء.
هذا الذي
يدخّن، من جيب أبيه، سجائره الرديئة
و من جيب أبيه
يدفع تذاكر سفر ظلّه إلى الغابة الزرقاء
ما كان، يوما، "أنا" الذي حلمتُ له أن يصير طبّاخا أو قبطان سفينة تجاريّة أو مبرمج حواسيب.
هذا الذي
أكبر أحلامه أن يطبع ثرثرته في ثلاثين نسخة ورقيّة
فقط،
ليهيديها لتسعة و عشرين صديقا مقرّبا كتذكار لأنّه لا يدري متى يفترسه الموت
ما كان، يوما، "أنا"
"أنا" دون كيشوت الذي قتل كلّ الرؤساء العرب و زعماء المافيا.. في أحلامه
 "أنا" دون جوان الذي راقص حبيبته في كلّ الطرقات
و راقص عشيقاته، المائة أو يزيد، في كلّ الحانات
.. في أحلامه
"أنا" الشّاعر المشهور جدا
الذي ترجموا أعماله لكلّ لغات العالم
و الذي سافر لكلّ مدن الدّنيا ليعلّم الشّعراء الشّعر.. في أحلامه
و "أنا" لم يكن، يوما، أنا الذي رأيته في أحلامي.
و هذا القطار،
الذي بطول أربعين عاما،
و الذي لا يكفّ عن الصّفير و لا عن اللهاث في جمجمتي
من يخرجه من رأسي
لعلّي أتشابه "أنا" و أنا ليوم واحد؟!!!
أنا" و أنا ليوم واحد .....هيثم الأمين / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 10 أكتوبر Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.