بئر أيوب.....بقلم محمد آدم / مصر
في وحدته جلس أيوب مطأطئاً الرأس
بذهنه طافت أفكار
ومدن
لم يشأ أن يغسل الضوء بأصابعه
أو يجفف السماء بدموعه التى كانت تجرى تحت مخداته كالسيل
تذكر محراثه
وأدوات حصاده
أيام مجده
وعزه
التى كانت تتنطط تحت رجليه كالقطط
ومثل بَركةٍ وحيدة تطلع إلى الشمس
التى كانت تملأ السماءَ
وتتساقط فى حجره كالفراشات
ما زال القمر يملأ السماء بخياشيمة والنجوم
تغسلُ الليل بيدٍ واثقةٍ
تذكر
سنواته التى أنفقتها فى تلك الصحراوات
الشاسعة
باحثاً عن الرب
مثل بقرةٍ !!
تذكر امرأته اللعوبَ التى تركها أمام التنور
وهى تعدّ وجبه العشاء
بينما تسيلُ على جسده كالحليب
فى الليل
تذكر
صحراوات أرض كنعان الحارقة لليل
والطير
وعدَ الرب لآبائه وأجدادة بأرض اللبن والعسل
خيالات سدوم وعمورة
بنات أدوم الأسطوريات
وهنّ يستحممن فى النبع
تحت ضوء النجوم الوهّاجة
ويتنشفن بالقمر الصيفي
آهِ
يالتلك اللذة
ويالتلك الكلمات الرازحة فى الصدر كالندوب
ويالأولئك الشقراوات اللاتى يفقن المقصورات فى الخيام
ويقفن كالبيض المكنون والدرّ
وهن يملأن جرارهنّ الفخارية بضحكاتهن الشفافةِ التى تسيلُ على الطرق – كالمن والسلوى -
أين ذهبن أو تطلعن ويالرقصاتهن التى تشبه حفيف الملائكةِ والجنّ
وغنائهن الذى يتفوق على المزامير
بالدف !!
لم يكن يعرف أن للزمن سكاكين قوية وأنيابْ
ولم يفكر لمرةٍ واحدةٍ فى عظام مفاصله التى تتآكل بفعل الشيوخةِ والنسيان
فقط ، تذكر
سنواته المجرَّحة على الطين والرمل والتى تتناثر على جسده مثل حصوات بحراشف وقناديلْ
تحسس دمامله التى تبقع اللسان والفم
لمَ
لمَ أنا يارب قلْ لى : أأنا سنبلتك الوحيدة فى حقل الحسك والدمْ هذا، أأنا النجمة الغريقة فى غيمة العالم هذه والتى تمدّ اليها حبالك القوية لتنتشلها من الغرق فى اليم
لمَ تضع يدك الراسخة تحت رأسى دائما كتذكار
حي على وجودك الذي يزلزل كيانى
ويهدد جدران روحي مثل عاصفةٍ برعوداتٍ
وبروق
لمَ
أخذتنى أنا من بين كل غنمك لكى تغرس سكاكينك
القوية حول روحى وفوق رقبتى ودون أن تحزّ
لمَ
اصطدتنى أنا فى شبكتك الوحيدة
من بين كل سمك البحرْ
لمَ
حولتنى أنا فى الليل إلى فريسةٍ
وفى النهار وضعتنى على ناصية الطرق
كى أكون عبرة
ليس فى جعبتى أى شئ !!
فى يوم من الأيام لم تكن لى حربة أو قوس
لم أسرق من حديقتك نجمة واحدةَ
لتفعل بى ما فعلت
فى وقت حصادى قدمت قرابينى
وعلى مذبحك العالى
أقمت مُحرَ قاتىْ
كنت نعمة ً فى عينيك
مثلما كنت نعمة ً فى عينىّ
ومثلما مشيت فى طرقك بالإستقامة والعدل تفحصت حصاة روحىّ
حتى تفّحّمتْ
فلماذا تضعُ يدك القوية على جسمْى
إلى أن تقرّحتُ
وسلطت علىّ ملائكتك
من ذوى الأجنحة
ليضربوا أرض روحى بالسكاكين
والبلطِ
حتى نشفتْ !!
أحصاة أنا
كى تدحرجنى كل هذه الرياحْ
أزهرة أنا كى يخزنى كل هذا الشوك
وتضع كل هذه الشكوك فوق مائدتى وطاولاتىْ
لمَ
تخيرتنى أنا من بين كل هذا العالم
لتختبرنى ؟ !
شفتاى
لم تنطقا بحرف واحد خطأ
ولم تجّدفا بكلمة
عن الشر والإثم حادت نفسى
وما انحرفت قدماى قطُّ
أرض جارى لم أطأ
ومن بئرّ أخى لم أشرب ولو قطرة واحدةً
فلماذا عيناك دائما تخترقانى
وكأنما أنا ثمرتك الوحيدة فى هذا العالم
التى تشتهى أن تفرسها بين أنيابك وتلقى بها كالخرقةِ تحت أظلافِ وحوش البرّ
وفى الليلْ
تضع قوسك وسيفك فوق كتفىّ
وبالنهار ترجنى مثل قشةٍ
أصخرة أنا
حتى تلاحقنى بكل تلك الضربات والعواصف !
أبحرُُُُ أنا
حتى أحتمل مّدك وجزرك
وغضب أمواجك وطواحينك
وأسماك قرشك الجّراحة
وقاع بحرك المفتوح كالهاوية
والقبرْ
ارفع يدك عنى أيها الآب الإله
فأنا فى غاية الظمأ
شفتاى مترعتان بالغضبِ
والألم
بينما تصر أسنانى على ثمرتك الحجرية هذه
لا !!
لا تتعجل أيها الألم العجوزْ
فهذه المناجل المشرعة للضوء
والشراشف التى تناضل ضد الموت
سوف تتعرف عليك
ودون تفاصيلْ
لا
لست صنواً لك أيها الآب الإله
حتى تحمل كل هذا الجسد جزيرة الديدان هذه
وتضع فوق تلك النبتة الصغيرة التى تسمى الروح
كل ثقل الجبال
أنا
وردة بألف جرح ْ
أيتها الصخرة
التى تسند العالم !!
اسمع ياأيوب
ماذا تعرف عن كلمة الرب المؤسسة للعالم كما هى السارية فى الطيرِ
والبحرْ
ماذا تعرف عن الريح من أين تنبع
وأين تصب
أو أين تذهب فى آخر الليلْ
من أنت قلْ لىْ
قشةُ صغيرةً على وجه الغمُرْ
حصاةُُ ناتئة فوق سفح جبلْ
حرف غارق بين أبجديةٍ
لغةُُ منقرضة
وتاريخُُ حياة يوشك أن يضمحلَ أو يزولَ
سوسنةُُ أنت
أم عود ليف
حسَكةٌ أنت أم عامود نار
الزمن يأتى ويعود
الشمس تذهب لتنام وفى الصباح تخرجْ
ماذا يعرف الإنسان أكثر مما أعرف
لقد جبلتك من الطين
وبيدى هاتين سويت معدتك
وأمعاءك
وجعلت لك أنهاراً تجرى فى داخلك لا تعرف
عدد شوارعها
وبحاراً لا تدرك عمق مراسيها
فى داخلك يسكن العالم كله
أما أنت فلست أكثر من حشرةٍ
صنعت لها عينين لتبصر
وقلباً لتحبْ
منحتك النظرة والنظر
فى أرضى أسكنتك أنت وذريتك من بعدك
وجعلت لك الأحلام بالليل
حتى تغتسل من تعب النهار
وبيدى
مسحت على زجاج عينيك
لكى تبصرَ خيط النور والظلّ
أريتك الفجر
وهو يشرق على الجبل
والسهل
وأهديت إليك سمك البحر
كى تأكل وتفرحْ
أسمعتك كلماتى على الأرض
حتى تكونَ نعمة لك فى عينيك
وأنت تقدم مُحرقاتك وقرابينك
ولم أكن فى حاجةٍ لا إلى مُحرقاتك
ولا إلى قرابينك
ألنتُ لك الحديد والصخر
وجعلتك مثل وردة برية
فى جوف الصحراوات المخوفة هذه
سوَّيتك
مثل طير البر
وجعلتك على صورتىْ كى تكون كاملاً أمام عينىّ
قل لي
أأنت أسستَ المسكونة َ حتى تقف أمامى لتسألنى
أأنت شققتَ البحر بمحارثيك
وجعلتَ موجه ظلمات بعضها فوق بعض
أأنت أسست مدارات السحب فى الشتاء والصيف
وحّددتَ مسارات النجوم
وجعلت الكواكب تضوى فى الليل
ماذا تعرف عن الكربون المشع
وحركة الجاذبية
ودوران الأفلاك
ومملكة سدوم
وعموره
وأين كنت قبل الكون وبعد الكون ِ
قبلك عصور مضتْ
وأخرى سوف تأتى
ماذا تعرف عن سمك البحر
كيف يأكل فى الليل
وماهى أحلامه
هل تعرف ماهى الأفكار التى راودتنى وأنا أصنع لك حبة الرمل هذه
تلك التى عليها تمشى
وتنام
تحلم
وتقيم أوتاد خيمتك
وفى الليل تشعل نيران مُحرقاتك
كى يخافك ذئب البرّ
ووحش الغابْ
أنظر !!
هل تعرف شيئاً عن حكمة الحياة والموت
وأين ستدفق عظامك بين هاتيك الصحراوات
وماذا عن روحك التي بين جنبيك
أين أخبئها
وكيف أحتفظ بها فى صناديقى وماذا أعمل بها فى أوقات فراغىْ
ماذا رأيت أبعد من أنفك يا أيوبْ
انظر إلى وحوش البر
كيف تتغذى
ومن أين تأكل
ومن جعل لها مخالب
وضّراساتْ
لماذا تركت الشيطان يتسلل إلى عظم روحك
ويغرس فى قلبك ثمرة الشك هذه
اسقط مع الايام
اسقط أيها الشعر!!
سنوك
التى أرهقت نفسك بها لتزرع وتحصد
أين ذهبت وكيف صارت كالبُّر ِ
ماذا عن تعب يدك
وآلتك المعطوبة التى بين فخديك
ألك كل هذه الأرضْ
لتبنى عليها مملكتك
ولتغرس بها بذرتك المعطوبة هذه
ألك كل هذا العالم
لتحرثة بمحاريثك الصدئةِ
من صنع يديك
قلت لى
من عمل يدى غرست وأكلتُ
حسناً
ومن عمل يدى كذلك أصنع ما يحلولى
تارةً
أكون عشبة ً
وتارة أكون رملة ً
تارة أكون قمراً
وتارة
أكون حصَّاداً للعالم
تارة أكون أغنية بين شفتى وردةٍ
وتارة أكون قوساً وسيفاً
تارة أكون برقاً ورعداً
وتارة بنفسجاتٍ وحصى
أيوبْ !!
قطعانك تعرف مراحها فى النهارْ
وفى الليل تلمها إلى حظيرتك
تماماً
ومثلما أعرف عدد قطعانى
وأودية أنهارى
من أين تنبع وإلى أين تصب
أيوب
أخرج من فوق هذه الأرض إن استطعت
قل لملك الموت أن لا يأتى إليك
وأنصب أنت شبكتك للموت
اصنع لك سماءً على مقاسك
كى تعرف عدد نجومها
ومجرّاتها
استملْ إليك الصخرّ
والمطر
إن قدرتْ
لا تمل بقلبك عنى يا أيوب
حدقْ إن استطعت فى الشمس
حدقْ جيداً
سوف تبصر بنفسك العدم ماثلاً من فرط ما رأيت
أنا
هو أنا
لست صخرة كى أنطحك يا أيوب
وأتركك تتفتت فى السيل
لا
ولا بعمل يديك أنظر إليك
أأنت أسست العالم
حتى تقعد لى على الطرق لتسألنى
وعلى رأس كل شارع لتجدف علىّ ؟؟
أنا خالق الخير والشر
وجعلتهما مثل كبشين ِ
متناطحين
لابد من وجود الخير
كى يملأ الشر دلاءهُ
وأوعيته
الخير المحض غير موجود
والشر المحض غير موجودْ
سلاماً
سلاماً
سلاه
لك يا أيوب
كل الأنهار تجرى إلى البحر
والبحر نفسه ليس بملآن
بئر أيوب.....بقلم محمد آدم / مصر
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
06 أبريل
Rating:
ليست هناك تعليقات: