أنِينُ الدخان.. #قصاصات_سوداء 2بقلم أمبي الدهاه عبدالرحمن / موريتانيا
#قصاصات_سوداء 2
*أنِينُ الدخان..
ذات مساء، و أي مساء، كان الجو دافئ و الشمس كانت تستلقي على سرير القيلولة في قبة السماء، كهدنة حزينة، ترابط فوق أعنة الغابات ترسل خيوطًا حادة تشوي الوجوه و تلامس أسطح البنايات و تصافح أمواج البحار الهادئة، كسيمفونية تعزف بأصابع مشلولة لعازف أصم، كانت أشعتها تتكسر قطعًا قطعًا على الرمال. و على حين بغتة إذا بالمكان يغص بلجبة تنهمر من ناحية الشمال هرج و مرج و قوق لم يسبق أن حدث مثله في هذه المنطقة، ضج ضجة ظافر، سُمِع صراخ طفل و نحيب سيدة، أختلط بهم صوت سيدٌ يعَوِّل على آخر، مستطلعًا ماذا هناك؟ تداخلت الأصوات المنكبة من كل حدب و صوب مع صوت سيارة قادم من ناحية اليمين بسرعة البرق، جعجعة محركاتها تطِن في باطن الأرض مخلفةً ذعرًا في نفوس كل من أصخ السمع و هو ذليل، هذه الضجة قد أثارت أهتمام عدد كبير جدًا من البشر هنا و بيد أن جميع الناس بدأوا يحترقون شوقًا إلى معرفة تفاصيل كل هذا، هي لحظات من الهلع و يعود صوت عجلات السيارة يدوي من جديد و بنفس السرعة عائدًا من مكان اللقط، كان ينفلت من ورائها سرب من الناس كعمود دخان ممتد على طول الشارع، نساء يتهامسن و أخريات يحوقلن، كان ثمة عجوز بيد أنه مصاب بمرض "السكر" سقط مغشيًا عليه و عاد محمولاً إلى أهله و يتحلق حوله عدد من الحاضرين. عند نهاية الشارع، وراء الجموع مباشرةً كانت سيدة طاعنة في السن تنتحب بمرارةٍ، تضرب في الأرض و تصرخ كالمجنونة، لا تريد أن تبرح مكانها، تسكتُ لحظة كأنها تستعيد ذكريات ماضية، تم تعاود النشيج بقوة أكبر من الأولى، منقلبة السحنة، زائغة اللب، تنزلق حُبيبات عرق على جبينها، تتألم ألمًا فظيعًا، فكلما حاولن التخفيف عنها و مواساتها، كلما طفقت تنوح بتزايد، أسنانها تصطك دون أن تستطيع كبحها، تحدق في السماء و كأنها تستمطر عذابًا.
قال أحدهم "المسكينة فقدت لتوها ابنتها الصغيرة زينب" بعد ساعات من الفقد المؤقت ها هو يتحول إلى فقد أبدي في لمحة بصر، دون سابقة إنذار و بشكل مخيف، حادث لن يُنسى و جريمة مدوية هزت أركان الإنسانية جمعاء، حتى تساقط لها الدمع مدرارًا و أشتد الجو حرًا، أصبحت الشمس تقترب شيئًا فشيئًا كأنها تريد أن تلعب دور المحقق، غير أن خيوطها الماحقة لا تساعدها على تقمص هذا الدور، حارة، تذوي الوجوه و تُشحبها.
لم تكن زينب من النوعية التي تحب الخروج من البيت بشكل دائم، ولا تتأخر في اللعب مع قريناتها في الحي و إن كانت نادرًا ما تقضي معهم أكثر من ساعة، كانت مؤدبة رغم صغر سنها، جميلة و على قدر كبير من الذكاء. تسكن في بيت متواضع جدًا، لها أختان أكبر منها و أخَوَانِ أحدهم هو البكر عند أبويها و الرضيع. من أسرة ميسورة الحال، أب تاجر في سوق "أكلينيك" و الأم تحمل شهادة عاطلة عن العمل، مكلفة بمهمة في المنزل على الدوام. تذهب كل يوم صباحًا إلى المدرسة، غير بعيدة من المنزل شارعان شمالاً و تصل إليها، في الغالب تذهب مع إخوتها، بعد أن تستيقظ الأم مع بزوغ الفجر و تعد لهن الفطور على قدر طاقة دخل جيب الأب المنقعر في أكثر الأوقات، و في أكثر الأوقات أيضًا يتناولن ضحكات الأم و مزاحها على شكل تحفيز مع ابتسامة مصطنعة تغتصبها بين الفينة و الأخرى كبديل للفطور، عسى أن لا يحين موعد العودة من المدرسة إلا وقد طبخ ما يعوضهن لتحمل الجوع ساعات من الجلوس على طاولات تعيسة. كانتِ الأولى في فصلها، تجلس دائمًا في المقدمة صامتة، تُصخي السمع لشرح المعلم، نجيبة و مجتهدة، تُعِد فروضها المنزلية بدون تكاسل ولا تأخير، تحب معلميها و هم يحبونها أكثر، لطيفة، بريئة، دائمة البسمة، وجهها كان يشع بإشراق نادر، يشبه تساقط خيوط شمس الضحى علىالكثبان البعيدة، هاشة باشهة في كل الأوقات، و كل الطلاب يغبطنها، مع حب لا حسد.
ذات صدفة مشؤومة لا أختَ لها، شاءت الأقدار أنها عادت من المدرسة قبل عودة أختيها، لأنهن لا يدرسن في نفس الفصل، هما في الثالث وهي في الثاني. بعدها بساعة، وصلتا إلى البيت، جلستا في الدهليز يضحكان، لاهي كانت هناك ولا الأم كانت موجودة، ظنتا أنها جاءت قبلهما و ذهبت إلى مكان ما، بعد هينهة دلفتِ الأم المنزل عائدة من عند حانوت الحي الشهير، تحمل في يديها بعض الأشياء خبز و كيلو أرز و بعض الطحين، لم تنتبه إلى أن زينب ليست في البيت مع أختيها. قد تكون في أحد البيوت أو في الحمام، لم تنتبه كأنها شاردة اللب، طائشة العقل، غير أنها مجرد ردت فعل عادية جدًا، بعد برهة غير يسيرة، خرجتْ من المطبخ تحمل الشراب في يدها و قطع من الخبز، أقتعدتْ الأرض و سكبت الشراب في ثلاثة أواني، و تعابير وجهيهما يظهران شيئًا من الدهشة و ضرب من الامتنان، ثم نادت طالقة صوتها على سجيته، "زينب" نفس الشيء الذي يتغلغل في ذهنها هي يشاطرنها البنات فيه، بعد المرة الثالثة، التفتت إليهما و سألت:
_ أين زينب؟ ألم تأتِ معكما؟
زينب!! تقول إحداهن، كيف؟
_هي غادرت المدرسة عائدة قبلنا بساعة، ظننا أنها معك خارج البيت أو عند أحد الجيران. تثلج الكلام في حلق الأم مشدوهة العقل، مذهولة اللب أعمق الذهول، فاغرة الفم، وشعرت برعدات تجتاح جسمها كله، وقد أمتقع لون وجهها حتى صار في صفرة الموت، حاولت أن تنتزع نفسها من مكانها إنتزاعًا، وقد استبد بها الحزن و الكمد، و بدأت تبحث عن الكلمات، تلبسها أحساس بالخوف و بعد برهة و كأن لسانها حُرر من قيد منيع، صاحت، و كان الصمت ينتصب بينهما كعمود إنارة:
_ ضعا الشراب و ابحثا عنها عند الجيران و صديقاتها، بينما سأذهب أنا إلى المدرسة عساها تكون في الطريق قادمة فهي تمشي الهوينى كعادتها، ثم رندت في سرها، أكيد زينب ليست بخير، وخرجتْ مسرعة، مندفعة خافقة القلب، تقرع الأرض وهي مهتاجة، لا تستطيع الوقوف على ساقيها من فرط الإضطراب.
كانت قد خرجتْ من المدرسة وحدها، بخطا كسيحة، تحمل حقيبتها المدرسية الصغيرة على ظهرها و تدندن أغاني بصوتها الرقيق، صوت ينم عن انطلاق سجيتها و سعادة مزاجها، غير مبالية بالعالم الذي حولها، كل مايحدث لا يعنيها في شيء، ترنحتْ بين زقاق الحي، قطعتْ الشارع الأولى، كانت تكردح بخطا صغيرة، و في وسط الشارع الثاني فقدتْ وعيها و غادرت الحياة دون رجعة، تاركة كل أحلامها البريئة مصلوبة على جذع شجرة يابسة وسط غابة تعج بالوحوش. في رابعة النهار، وقت الهجيرة و عودة الطيور إلى وكناتها، بعد رحلة بحث مضنية عن طعام لصغارها، إذا برجل يأخذها على حين غرة، و يغمغم بأطراف جملٍ من تحت شاربه، هوّل الصبية وتخشبت بكل معنى الكلمة، تتفاجأ به يمسك معصمها، حدجته بنظرة سريعة، نظرات تفيض خوفًا و هلعًا، و بدأت تحاول التملص منه، لأنها لم تعتد مخالطة الغرباء، حاولت أن تنفذ بصرها في عينيه بنظرة أخرى، غير أن طول قامته لم يسمح لها بذلك. في البداية خرجت الكلمات متعثرة من فمه السيئ التكوين، أخذ يهرف و يخبط في كلامه خبط عشواء، لكنه في الأخير تحايل عليها بذكاء حتى أستطاع أن يقنعها أنه جارها و أنه ذاهب إلى منزله بجوارهم و يريد مرافقتها، لم تنبس ببنة شفة لبراءتها و طيبة قلبها، ظنت أن الكل مثلها صدوق، لطيف و رحيم. شاب في بداية عقده الثالث، لديه جسم رياضي و قامة طويلة، هيئته تنضح بقوة طاغية، مع وجه ذي قسمات كريهة، ترتسم على جبينه تجاعيد كثيرة، كأمواج بحر هائجٍ، طفق يسترسل، أنه سيعَرّج على حانوت في الطريق ليأخذ منه بعض الحاجيات و بعدها ينعطفا إلى المنزل، ناظراً إليها بطرف عينه، روّيت قليلاً، فما كان منها إلى أن أومأتْ موافقة كرجل قانت. سارا معًا حتى تأكد أنهم قاربوا الإبتعاد عن المكان الذي أخذها منه، دسّ يده في جيبه و أخرج قطن كان مُنوّم هناك يحتوي على مخدر سريع، ثانية و نامتْ الصبية، حملها على كتفه كأنها ابنته أو أخته الصغيرة، تعبت من المشي و حملها رحمة بها و شفقة. ينطلق حرًا مثل الريح تتحرك بين السهوب، يشق المنازل بسرعة نحو مكان الذبح، بمشيته الوقحة المكردحة، وسط موكب من الصمت، و قطرات عرق تتلألأ فوق جبينه. وصل، و كان في إنتظاره وحشين اتصل بهما و هو في الطريق، أناس رعاع، أحدهم في سنه وفي قدره هو، مفتول العضلات ينفجر في شباب و حيوية، يعتمر قبعة و يرتدي بنطلون جينز و يطفو في قميصة الواسع، الفضفاض، و حذاء رياضي، و أذنين متدليتين و مشكلتين تشكيلاً سيئًا، أما الآخر أقصر منه و أنحف، يرتدي نفس العينة من الملابس مع إختلاف اللون و الماركة ولا يمتلك قبعة.
كان المكان مهجورًا و الحركة فيه قليلة حتى تكون شبه معدومة، وضع البُينة أرضًا، لم يصدر عنها أي صوت منذ أن خدّرها، كانت تنام بدعّة على كتفه طافية في أحلام بعيدة، تبعث أحلامها على أجنحة الرياح، علها تستيقظ و هي دكتورة أو مهندسة و غيرها من أحلام الأطفال المعتادة. فعلوا بها فعلتهم و هي تصرخ في داخلها، كأن أحشاها ستخرج من فمها الصغير دفعة واحدة، و تقطعت أنفاسها في صدرها، وازدحم الدم قويًا عنيفًا في رأسها. جعلوها تهرق دمًا، كانت مضرجة بالدماء، و مجرد جسد مسجى على الأرض تفترش تراب حمراء، و أصبحت هريسًا مبتلاً بالدم. حتى قرروا حرق جثتها، خوفًا من ترك أي أثر يدل على نذالتهم، لا يخافون الله ولا القانون الهش، المنسي أصلاً و لاهم يمتلكون أدنى ذرة من الإنسانية حتى. إذًا هم لا يخافون أن تورطهم فعلتهم هذه شر ورطة، كل شيء كتب تحت قبة السماء في هذه الأرض بتلك اليد، يد الخسة و الظلم. حرقوها و تركوها كجذوة فحم ترقد هادئة بعد حرق عودها، فأصبحت كالصريم. و أنِينُ الدخان يأخذ زمام الكلام، يُبرطِم كلمات غبية متلعثمة و هو يصعد في العدم.
أنِينُ الدخان.. #قصاصات_سوداء 2بقلم أمبي الدهاه عبدالرحمن / موريتانيا
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
13 مايو
Rating:
ليست هناك تعليقات: