حياة بلا روح.. قصة قصيرة بقلم امبي الدهاه عبدالرحمن / موريتانيا



#قصاصات_سوداء

* حياة بلا روح..              _ قصة قصيرة

.. اليوم أيضًا عادت مبكرًا للبيت على غير عادتها، و لم تقضي وقتًا طويلاً خارجًا، كانت تبكي بحرقة و بمرارة، تبتلعها نوبة من النحيب و الهلع بشكل مخيف، تكاد تلفظ قلبها خارج صندوق صدرها، الذي يعلو و يهبط بسرعة، كاهتزاز هاتف على طاولة صدأة متآكلة. بنفس الطريقة تقريبًا دخلت البيت منذ عدة أيام دافنة وجهها بين كفيها الصغيرتين، معتمدة على بعض من ملحفتها  لتجفيف دموعها الدافئة، المنهمرة بغزارة كأمطار الخريف، التي تنبت العشب و تخضر بها الأرض و تعطي حياة جديدة لباقي الأشجارة و تشجر بشكل لطيف المنظر، و حلو المذاق للمواشي التي تتقاذفها السعادة و الإستبشار بماء كن في إنتظاره، أما أمطار صديقتنا فهي تقتل الأخضر واليابس، و تشوي القلب و تحرق الجفون، أمطار القهر و الذل، لا تنبت سوا اليأس و الإختناق و ندبات لا تذبل ولا تندمل.
في ذلك اليوم، دخلت على حين غرة دون أن تنبس ببنة شفة، حتى لم تلقي السلام و لم تطرق الباب أو يثير إنتباهها أي شيئ مما كان في البيت قبلها، لأنه حينها كان مكتظًا تقريبًا بالضيوف و أكثرهم من الأقارب، جاءوا للإطمئنان على صحة أبيها الذي يعاني وعكة صحية منذ أكثر من أسبوع.  كان الجو خارجًا يتصف بالهدوء و صفاء المنظر، الشمس قريبة جدًا من رؤوس المارة، تصافح الأعالي و تراقص الأمواج الخفيفة، لم يكن للريح أثر بعد الساعات الأولى من اليوم و هبوب نسيم عليل، يداعب نوافذ البيوت، يتغزل بها قليلاً ثم يتسلل للداخل بسهولة، فتوقف حين بدأت خطوات الشمس تقترب من كبد السماء و يزداد ضوئها سطوعًا و حرارةً، كانت مجرد نارًا تلظى، تشوي الجماجم و تساعد في تسريع تساقط الشعر و حرقه. دخلتْ الغرفة رأسًا، لم تنتظر حتى أن تغلق الباب خلفها، و من شدة الألم و القهر، ارتمتْ بسرعة على وسادتها و حضنتها بقوة علها تكون سندًا تتوكأ عليه في مشاطرتها وجعها و التخفيف عنها، أشتد البكاء بعد ذلك فجلستْ دافنة قامتها بين رجليها، مصالبة ذراعيها بقوة و تضغط على الوسادة بين الفينة و الأخرى، تحاول أن تفرغ كل ما يملؤها من حنق و طاقة سلبية سحيقة، تذبح قلبها و تعبث بكل جوارها، تنهش فؤادها و تسيطر على عقلها. كلما بكت أكثر حام حولها طيف ذلك الصباح المشؤم، فتنهار أكثر و تحتقر نفسها و تبدأ تغرز أظافرها الحادة في جبهتها ثم تسحبهم حتى ذقنها تاركة سيولاً من الدماء تسيح على الخدود و تغطي كامل الوجه، تنتقل من وججها ثم تبدأ تعبث بصدرها بجروح خطيرة، تلطم رأسها على الحائط بقوة غير مدركة ماذا هي فاعلة، تنتف شعر رأسها بقوة حتى يكاد يتساقط في يدها، التي ترتجف وجلة خائفة ترتعش بدون توقف.
اليوم أيضًا سقطتْ على وجهها مهدودة القوى، قبل وصولها إلى الغرفة، متأثرة بسوء حالتها النفسية، لم تعد قادرة على مواصلة المشي على أقدام مشلولة، كانت تجاهد نفسها رغم عدم شعورها بحركتهم، لفقدانها لأي حاسة شعور أو إحساس، كانت تتوهم المشي فقط، عاشت في حلم سريع جنوني بشكل فظيع، هي متأكدة أنها تمشي لكنها لا تشعر بحركة رجليها الكسيحتين، ترى المارة من حولها يرمونها برذاذ كلام لم تسمعه، قطعت الشارع الرئيسي وكادت أن تتعرض لدهس من طرف أحدى السيارات و مع لك لم تشعر أيضا، تعرضت قدميها لضربات قوية لسرعة مشيها و عدم توازن خطواتها أو مراعات الطريق و مافيها من حجارة أو عوائق قد تصيبها، لم تكن تُلقي بالاً لكل هذا، بعض أصابع قدميها مشروخة بالدماء.  تحلق حولها من كان في المنزل بسرعة، يسألون بأصوات مختلطة كجعجعة رعود. صاح الأب بصوت جازم و فيه من الصرامة ما يكفي و يخيف: ما هذا الهرج و المرج لم كل هذا القوق و إحداث ضجة كهذه؟ انخفض الصوت دون أن يتجرأ أحدهم أن يرد بكلمة للعجوز، أخذوها إلى داخل الغرفة حاولوا أن يستفسروا عما حدث لها لكنها كانت صامتة كالآلة، مشلولة لا تتحرك، قدمت لها إحداهن قدح ماءٍ، لم تعره أي إهتمام،  بعد دقائق أحست بضيق في التنفس و بدأت تختنق من وجودهم حولها، فصاحت بصوت مهدج يتقطع بسبب التشنج و النحيب:
_ أخرجوا عني، أتركوني وحدي، لا أريد أن أرى أحدا منكم، لا تقدموا لي ماء ولا غيره، إن كنتم تصرون على تقديم شيء لي رجاءً أناشدكم الله فليكن سمًا من فضلكم، غير ذلك لا أريده، كما لا أريد رؤية وجوهكم هذه، أراد أخ لها أن يقترب منها، سقطت على قدمه دمعة، أحس بها دافئة تسبح على أصباعه، و الأخرى تتنظر دورها على خده اليسرى، أحست به يقترب شيئًا فشيئًا، فنكمشت على نفسها، مرتعشة بشكل لم يسبق أن شاهدوه، كأنها فجأة شاهدت حيوان مفترس أو شبح مخيف، زعقت بصوت أعلى: لا تقترب أتركني بسلام، أبتعد عني لا أريدك أن تلمسني، أكرهكم.. أكرهكم.. و ظل صدى هذه الكلمات يتردد خارجًا من أعماق قلبها الذاوي، حتى طمس  الصوت و مات الكلام في فمها. انفضوا عنها جميعًا ما عدا أمها التي قررت البقاء.
ظهرت أختها الكبيرة من داخل غرفتها، فسألها العجوز فورًا:
_ ماذا بها اليوم أيضًا؟
فقالت متهربة ضاربةً بنظرها الفراش:
_ من يدري؟ ربما حدث لها في الخارج الشيئ الذي كل واحد منا يتوقعه، انها متعكرة المزاج جدًا.
_ شيطان يأخذها إذًا! ألا فليتعكر مزاجها إذا كان ذلك يسرها! أما أنتِ فهلا حضرت لي شرابًا سريعًا
حلقي جاف للغاية، أسرعي!!
قال العجوز ذلك و بدأ يشبر مسبحته الطويلة، يعدها حبة حبة، و هي تنسل من مسافة بعيدة منه، و يبدأ يجرجرها حتى تتجمع قربه و يعيدها من جديد و هكذا دواليك.
أقتعدت الأم الأرض غير بعيدة منها و الدموع تأخذ زمام الكلام، مجللة باليأس و الحزن يملؤ مابين القلب و شغافه، ترسل نظرات متقطعة تسقط على جبين البنية كوميض خاطف، فسرعان ما تنشل راجعة كالضوء خاسئة، منكسرة.
ظلتْ تحت ناظريها لساعات تحتضنها بعيون جاحظة، يمتلئ قدحيهما بالدم بدل الدموع، و تقدحان شررًا و تفيضان ألمًا، نامت على حين بغتة، رأسها مائلاً معقوفًا يتدلى من الوسادة كجيفة بال عليها الدهر و أكلها العث، ماهي إلا لحظات و إذا بهذا الظل القادم من بعيد على شكل بشر، تجمدت في مكانها وقد ابتلعت صوتها و تحجر لسانها، اقترب منها حتى انقشع عنه الظلام، فكان رجل خمسينيٌ له شعر أسود وخطه الشيب، مفتول العضلات، كريه الوجه، عبوسًا قمطريرًا، لا رحمة في قلبه، طبع الله عليه و أعماه، فما كان منها إلا أن سلّمت روحها لبارئها، و خرت مستكينة مستسلمة، هو نفس الشخص، نفس القسمات، و نفس الحركات، حتى نفس الثياب لم يتغير فيه شيء، حتى أنه كان قادمًا من نفس الجهة. لاحظت الأم تعرق وجه أبنتها، ظنت أنه عرق عادي بسبب الحر و ذهبت و قامت بفتح جميع النوافذ، و عادت لمكانها تتابع حال إبنتها فرحة أنها نامت قليلاً لتستريح و يعود إليها بعض من روحها المؤدة قسرًا. بدأ لون وجهها يمتقع، صار أحمر قان مع حركات بطيئة، و نشيج قدام من مكان بعيد، منسل من روح خاوية. كان هو لا غيره، عاد إليها ليكرر عملته، ليأخذ ماتبقى من أمل تتوكأ عليه، حاصرها و هي نائمة، بعيدة عن الأنظار كالسابقة، أخذها على حين غرة و لجمها، أسكتها و عاث فيها بطشًا و رذالة، انتهك شبابها، برائتها، و صلب أحلامها على جدار الخزي، انتزع روحها دون أن يتردد ولو للحظة، رماها خارج أسوار الحياة الطبيعية، جثة هامدة، حتى الذئاب تتقزز من أن حوم حولها..
حياة بلا روح.. قصة قصيرة بقلم امبي الدهاه عبدالرحمن / موريتانيا Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 08 مايو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.