رؤيتي التنظيرية في النقد ...بقلم ثناء حاج صالح / سوريا
رؤيتي التنظيرية في النقد
علاقتي مع النقد التطبيقي، مع النص الأدبي المنقود، هي علاقة المستكشف بالأرض الجديدة التي لم تطأها قدمٌ قبل قدمه، فلا يخلو التجول في هذه الأرض من هاجس اكتشاف الكنوز والثروات الثمينة. ولا يخلو من رغبة التمتع باستكشاف المجهول المدهش وإظهاره للعيان. وهي علاقة البستاني بنباتات الحديقة المزروعة في أحواضها، فلا تخلو رعاية هذه النباتات من الرغبة بتشذيبها وقص ما شذَّ عن الطول المطلوب من فروعها، كما لا تخلو من مسؤولية سقايتها وتغذيتها ودعمها ، إلى أن تشتد وتزهر وتثمر.
ممارستي لفعل النقد شَغَف فُطِرتُ عليه ، أمارسه هوايةً، كإشراق ذهني. وهو يوازي عندي الحاجة لتعديل المزاج المعكر بالبحث عن إحدى طرائق استعادة التوازن النفسي.
حينما يمسَّني نص أدبي عند قراءته ندخل معاً ( أنا والنص) في علاقة تجاوبية متبادلة من الإلهام والاستشفاف، فبقدر ما يتمكن من إثارة وتحريك كوامني الوجدانية والمعرفية من خلال مثيراته الجمالية، يبعث فيَّ من النورالداخلي ما أعيد بدوري إسقاطه عليه لاستشفافه واكتشافه.
أما علاقتي مع مناهج النقد ونظرياته، فهي علاقة الأخذ بقدر الحاجة من كل منهج يصلح لتحليل النص حسب قناعتي. فأنا من أنصار المزج بين المناهج والنظريات عند ممارسة النقد الأدبي لعدم إضاعة فرصة الإفادة من كل منها ولكنني أقوم بهذا المزج بمقادير محددة وليس بالمطلق، وعلى سبيل المثال، أنا أرفض نظريتي النص المغلق ونظرية موت الناص وهما من مبادئ منهج البنيوية الأساسية . غيرأنني في الوقت ذاته أعتنق وبقوة مبدأ البحث في تناسق البنية الكلية للنص وتماسكها أو ما يسمى بالوجود الكلي الذي يحدده السياق العام للنص وهو ما يعتبر جوهر النظرة البنيوية.
وأما في مسألة رفض موت المؤلف فأنا أتبع المنهجين النفسي والاجتماعي فأراني أنفذ من خلال تحليل الكلام الظاهر في النص الأدبي وعبر آلية تحليل الخطاب التي ينتهجها أتباع المنهج السيميائي إلى تحليل شخصية الناص أو الشاعر نفسه، وهو ما يُعَدُّ أمرا مخالفا للمنهج التفكيكي .
كذلك فإنني ممن يستهويهم جدا البحث في التجربة الجمالية في النص الأدبي وأرى فيها الجائزة التي يحصل عليها كل من الشاعر والناقد والمتلقي في الوقت ذاته. وأتفق مع الفيلسوف الألماني KANT في إرجاع التجربة الجمالية إلى الشعور الحسي باللذة أو الألم إلا أنني أخالفه في مسألة عدم التدخل بوضع قواعد لإنشاء الجمال، لأنني لا أستطيع عند تتبع واستجلاء جماليات الصورة الشعرية وتشكيلاتها الفنية أن لا أتدخل في اقتراح حذف أو إضافة العناصر اللغوية التي أراها تضعف من بنية الصورة وتؤدي إلى تخلخلها. ومبرر هذا التدخل عندي هو الاحتكام إلى قوانين علم البيان والبلاغة العربية بمفاهيمها القديمة والتقليدية الأصيلة. وعند ممارستي النقد الحديث أحاول التواصل مع النقد العربي القديم الذي يتخذ من البلاغة والبيان والنحو وأساليب الكلام مادته الأصلية.
ولا أستطيع الموافقة على التشظي والعشوائية وعدم التناسق في تشكيل الصور الجمالية في سياقات النصوص الأدبية ما بعد الحداثية ، والتي شجَّع عليها المنهج التفكيكي من خلال دعوته لعدم تحديد المعنى في الكلام المكتوب في النص الأدبي . بدعوى عدم جواز التدخل في أسلوب الشاعر في بناء الجمال عندما يرتكب ذلك التشظي الهدَّام للمعنى ، وذلك لأنني ما زلت أؤمن بالوظيفة التقويمية التي ينبغي للنقد الأدبي أن يؤديها.
إن الإفادة من الأدوات العلمية لمناهج النقد بكافة مذاهبها هي ما يتيح للناقد رؤية شاملة ومنصفة تحيط بالنص الأدبي شكلا ومضمونا، لتحليله جماليا ونفسيا وتاريخيا وسيميائيا. أما الاقتصار على أحدها دون الآخر فينجم عنه إهمال بعض جوانب النص الادبي التي لا تطالها أدوات البحث المحدودة في منهج واحد معين.
والنص الأدبي نفسه هو الذي يحدد طريقة قراءته النقدية ويحدد المناهج التي تلزم لتحليله. لكن تشريح النص الادبي وتحليله حتى ولو كان عملا علميا فهو ليس عملا آليا معزولا عن تأثير روح الناقد وثقافته ومقدرته على الاستشفاف والاستقراء. فإدارة أدوات مناهج النقد المختلفة عند استخدامها إدارة صحيحة تجنب الناقد تضييق الخناق على النص والتعامل معه كجثة هامدة ممددة على المشرحة . بل إن أجمل ما في النقد هو حيويته التي تتعامل مع النص تعاملا حيويا يعتمد على محاورة النص واستدراجه ليفصح عن مكنوناته النفسية والجمالية .
وكي يتمكن الناقد من الإحاطة بالنص الأدبي في تحليله النقدي يجب أن تكون خبرته في الاستقراء والاستدلال أوسع من الدلالات التي يقدمها النص نفسه. وإلا فإنه مهدد بسبب ضعف خبرته بأن يسقط ضحية للانبهار الكامل بالنص الأدبي القوي. فما لم يكن لديه وجهة نظره الخاصة التي قد تلتقي مع وجهة نظر الناص/ الشاعر فتوافقها أو تخالفها جزئيا أو كليا. فلن يكون ثمة محاورة واستنطاق حقيقي للنص. كما أنه لن يتمكن من ممارسة الوظيفة التقويمية للنقد.
ونحن هنا أمام العلاقة الجدلية بين الالتزام بمعايير النقد التي تنصبه حَكَما على النص الأدبي من جهة ، وطبيعة الإبداع التي تجعله مستنفرا متجددا كارها للالتزام بالقيود والشروط من جهة أخرى . فإذا اعتبرنا المعايير التي يفرضها النقد على النص الأدبي وفقا لجنسه الأدبي نوعا من التقييد فإن بعض المبدعين قد يصطدمون مع الالتزام بالمعايير ويرون فيها عائقا لهم.
ولكن من وجهة نظري أرى عدم الالتزام بمعايير الجنس الأدبي ومعايير اللغة والبيان يقود إلى حالة من الفوضى الكلامية التي تؤثر أساسا في قانون الترابط المنطقي عند تشكيل المعنى وهو ما يحدث فعلا في منهج ما بعد البنيوية (التفكيكية) في مرحلة ما بعد الحداثة. ولأنني أقدس المعنى في النص الأدبي، وأرى أن الأدب العالمي كظاهرة إنسانية وعبر تاريخه الطويل قد أجهد نفسه في سبيل تحديد المعنى وتقديمه في إطارالبنية اللغوية الصحيحة والمؤثرة في الجمهور، فإنني مضطرة للمطالبة بحراسة هذه البنية اللغوية التي يقيم فيها. وهذا يجعلني أقف وجها لوجه وفي حلبة صراع أمام أطروحة المنهج النقدي التفكيكي الذي يبشر بعدم القدرة على تحديد المعنى .
أنا أؤمن بأن للمعنى طبقات تحيط به وتجعله غير قابل للتحجيم والإغلاق .وهذه الطبقات تعني توالد آفاق للتأمل الواسع ينبثق بعضها عن بعضها الآخر. وهو ما يتلاءم مع الحاجات النفسية للمتلقي الذي يريد أن يكتشف المعنى الذي يحتاجه هو بنفسه من خلال إتاحة الفرصة له للتأمل والاكتشاف والاستنباط والاستقراء وهو ما أؤيد فيه المنهج التفكيكي الذي يشرك المتلقي في إعادة إنتاج المعنى. ولكن أرى أن إعادة إنتاج المعنى من قبل المتلقي ليس مفتوحا على الإطلاق وليس لا نهائيا، وإنما هناك عدد محدد ومحصورمن احتمالات تأويل المعنى لا بد وأن يتوصل المتلقي إلى أحدها. وأن هذا الأمر يحدث عند المتلقي بطريقة انعكاسية وتلقائية مع أي نص أدبي ولا يحتاج إلى العمل عليه عبر تهيئة مسبقة للنص لتوفير شروط معينة يحتاجها المتلقي كي يعيد إنتاج المعنى. وبمعنى أدق أرى أنه أنه لا ينبغي على الناص/ الشاعر أن يخلخل بنية الكلام المكتوب ليجعل المعنى فيه مهتزا وغير قابل للتجلي بثبات كي يلهم القارئ بانفتاح الكلام على تأويلات غير منتهية للمعنى. فعندما يفعل الناص ذلك ( كما في نصوص الشعر المنثور مجهضة البنية) فإنه يجهض المعنى قبل اكتماله ويلحق به من العاهات الخلقية ما يسِمُه بالعجزعن التأثير. في الوقت الذي كان ينشد فيه أن يمنحه من الأجنحة ما يجوب بها آفاق التأمل.
لذلك، ولأنني أدعو إلى حفظ سلامة المعنى في النص أحرص على إبعاد كل ما لا ينتمي إليه مما لا حاجة له به من زوائد وإضافات لغوية دخيلة على بناء الكلام الذي يسكنه المعنى، خشية من تشويهه أو إجهاضه أو تدميره .
إن الدور الذي يجب أن يمارسه النقد في حفظ سلامة المعنى وحراسة البناء اللغوي الذي يقيم فيه هو دور تقويمي في أساسه . وهذا ما يمنحني كناقدة صلاحيات النقد كاملة. فكما يحق لي إبراز جماليات النص ومواطن الإبداع فيه كذلك يحق لي الكشف عما أراه ثغرات فنية فيه. سواء من حيث تشكيل الصورة الشعرية أو البناء اللغوي أو الشكل الفني العام للنص. ويتبع هذا الكشف حق وواجب تقديم اقتراحات تتعلق بسد تلك الثغرات أو تجنبها. غير أن هذه الصلاحية بالذات تُقابل من قبل كثير من الشعراء أصحاب النصوص المنقودة بالاعتراض؛ وقد يأتي اعتراضهم في صيغة الرفض لما يرونه محاولة من الناقد لتقييد الإبداع والحد من حرية الابتكار في الشكل والضمون عند المبدعين . وهنا سيدخل الناقد والمبدع معا في حالة جدل غير محسوم النتيجة، لأن تقويم النص في الحقيقة وظيفة أساسية للنقد. وهو الدور الأهم الذي يمارسه النقد في سبيل تطوير أدوات الإبداع نفسه والارتقاء بالتجربة الإبداعية شكلا ومضمونا والتحفيزعلى المزيد من الإبداع. فوجود الدور التقويمي للنقد يحفِز المبدعين على الاجتهاد في صقل وتنمية خبراتهم الإبداعية والتمكن من استخدامها بإتقان، وكأنه يقدِّم لهم المِسَنَّ الذي يشحذون به شفراتهم التعبيرية.
ومن ناحية أخرى ، فإن من صلاحيات النقد الأدبي أيضا كما أرى أن يتدخل في تقويم الأطروحات الأيديولوجية التي يطرحها النص الأدبي. وأتوقف هنا لأؤكد على ضرورة وضع علامة فارقة بين نوعين من ممارسة النقد عند النقاد في وطننا العربي:
النوع الأول منتمٍ لمنظومة قِيَمية محددة ويسعى للحفاظ على الهوية الثقافية وعلى استمرارها التاريخي اجتماعيا وسياسيا وإنسانيا. وهذا هو النقد الذي يؤثر في المجتمعات ويوجِّه حركة التيارات الفكرية المعاصرة فيها ويقودها إلى المستقبل .
والنوع الثاني غير ملتزم بشيء ويطبِّق في أسلوب تعاطيه مع النص نظرية (الفن للفن) حتى مع الأطروحات الفكرية المدمرة للهوية الثقافية التي تطرحها بعض النصوص الأدبية. فهو يسلب النقد حق التدخل في النص بهدف تقويم القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية، بدعوى التحرر من الموروث الذي يقف عائقا في وجه حرية الإبداع.
وإن النوع الثاني من النقد – في رأيي- يساهم بتخليه عن وظيفته التقويمية في خلخلة وانحلال المنظومة القيمية ومحو ملامح الهوية الثقافية للأمة. وغالبا ما يكون الناقد الذي يمارسه خالي الوِفاض وأضعف من أن ينهض بالمجتمعات أو يساهم في حل مشكلاتها، لأنه هو نفسه فاقد لبوصلة الاتجاه ومنقطع الصلة عن القيَم التي يُفترض أنه منتمٍ إليها. وأما حضوره في عملية النقد الأدبي فيشبه حضور المادة المائعة عديمة اللون والشكل في مجرى النص الأدبي ؛ لذلك فإنه عندما يتداخل مع النص لا يملك إلا أن يتماهى معه فيسايره وينساق بقوة تياره. فالنص هنا هو الذي يتولى قيادة النقد ويستعمله كأداة جديدة للدعاية له. وكثير من نصوص القراءات المحسوبة على النقد تظهر لي تحت عدسة (نقد النقد) أشبه بنصوص دعايات الإعلانات التي تنفخ في الأبواق وتطبِل وتزمِّر وتضخم وتزوِّر وتغش في ترويجها للمنتجات، وليس لها من أهداف سوى مكاسب الترويج والتسلق والتملق. إلا أنها وللأسف تساهم في إعلاء قيمة السخافات والتفاهات الثقافية وتجعل لها مكانا من الإعلام على حساب النصوص الأدبية الثمينة رفيعة القيمة. وأنا أرى أن تُسمى هذه النصوص الدعائية المطبِّلة المزمِّرة (قراءات دعائية) وليس قراءات ناقدة.
إن الرؤيا التنظيرية لأي ناقد لا يمكن أن تكون إلا نتاجا للمرحلة التاريخية التي يعيشها الناقد ويعاصرها مع كل ما تتضمنه من نظريات فنية وأدبية وتيارات فكرية معاصرة له، ولا شك أن إطار هذه الرؤيا يُرسَم كذلك بخطوط وعلامات تتصل بالبيئة الثقافية التي ينتمي إليها. فكما توجد عوامل ثقافية بيئة محددة تجعل النص الأدبي المنتج في الغرب مختلفا عن النص الأدبي المنتج في الشرق، كذلك تتكرر هذه العوامل الثقافية البيئية في إحداث الفروق بين الرؤى النقدية في البيئات الثقافية المختلفة. وإلى هذا أرُدُّ العوامل التي أثَّرت في تكوين الرؤيا التنظيرية للنقد عندي.
رؤيتي التنظيرية في النقد ...بقلم ثناء حاج صالح / سوريا
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
28 مايو
Rating:
ليست هناك تعليقات: