الحكاية (قصّة قصيرة) بقلم عبد الواحد السويّح / تونس



الحكاية (قصّة قصيرة)
عبد الواحد السويّح
-----------------

اللّيلة اللّيلة ميلادنا، هي الحياة المتجدّدة، ويك المتقمّصون، اسمعوا وعُوا.
                                      عواء اللّيلة. اللّيلة بين أيديكم. كم من مرّة، كان يا ما كان، وستاكة* وسرمي** عريان؟

   أخيرا ننتهي. هيموا بعيدا وتوزّعوا. نحن بذور الفناء فلننتشر. الخلق معجزة. كما الموت معجزة. عجّزوا الكون وقودوا النّهاية. هيموا وهرّموا...

  - ما بك أيّها الجمل الهدّار، ملتحف بإزار، وقابع أمام الدّار؟

  - من أجل زُها بالي، وأمّ عيالي، إن كان فيك خير، فاذهب وأرجعها لي.

   ألم، هرم، همّ:
   ألم الكلم، وهرم الجسم، وهمّ الندم، وتكّازة***، تكّازة !

  - يا هي، هيّا، وحدّثيني عن طريقي!

   هائمون. عاجزون. نبحث عن السّمك في الصّحراء. والدّيك. صاح الدّيك، أنتم أعزّ أصدقائي. الدّيك سمين، وصوته حزين، وريشه يلمع في شمس اللّيالي. إنّها الرّواية المنتهية وأنتم خطوطها، انتبهوا! قال الجمل:

-   كانت هنا. حبيبتي. أنيسة آلام النهار الّتي أجترّها باللّيل. كانت ناقتي، الوحيدة الّتي يمكن أن أمتطيها. هنا. مرضعتي، حيث يمكن أن أمارس ألذّ الأدوار: السيّد، الطّفل، العاشق، الرّاكب و... تتحمّلني دائما، وحتّى لمّا تفطّن أسيادي لدلالي اللّيليّ وانتزعوها منّي بكت. أوهموها أنّهم لا يبغون منها سوى حليبها فَبَكَأَتْ. رأيت الدّموع تنسكب من عينيها حين اقتادوها.

   - اسمكِ واسم أمّكِ.

   إن كانت هذه العرّافة عالمة بالغيب كما تدّعي فكيف لم تتفطّن إلى ترصّده بها، أم إنّها لا تهتمّ إلاّ بأخبار الآخرين، أصحاب المال والعقول الميتة؟ من يدري، ربّما تعمّدت أن تتغافل عن ترصّده إياها، كان...

   اللّيلة اللّيلة نحتفل. حناء وسواك وبخور الجسد واللّعبة الإلهيّة، خدعة القضاء والقدر.

   ما رأيكم في هذا التّفسير؟

   أنا سيّد أمرتُها بخلع ملابسي يومين فقط بعد انقضاء طفولتها، وبقيتُ أترصّد دهشتها وذهولها. مزّقتُ ثيابها، تعالى بكاؤها فتعالت وحشيّتي. ارتماءتي وحدها كانت كافية لمنع مقاومتها. أنا السّيّد همستُ لها. وقبل أن تعضّني تأبّطتُ رأسها فتخدّرتْ. أحسستُ بلسانها يلسح شعر إبطي. تراخت. وحين فضضتُ بكارتها عضّتني ثم بكت. قلتُ لأخرى:

   - خوف، مقاومة، رضوخ وبكاء.
   لم تصدّق. قلتُ لها:
  - تعالى اللّيلة وتأكّدي.

   أتتْ، وعند الصّباحِ قالت: أنتَ سيّدي، عالم الأسرار، سآتيكَ بالإفطار.

  -،كو كو كو! أنا الدّيك، أنا الدّيكُ، عشرون دجاجة لا تكفيني، صوتي يحميني، وريشي ينجيني، والكونُ دوني لا يستفيقُ، أنا الدّيكُ، أنا الدّيكُ.

  - يحيا الرّيش ! حيّوا الدّيك ! يعيش، يعيش!

  - تحيا أيّها الدّيك الجليل وتسلم، وقبل أن تتواضع وتتكلّم، هل أتاكَ خبر الكبش المؤلم، الّذي شرّف وسلّم، وعن النّاقة تكلّم، فذبحناه بتلك السّكّين المخفيّة تحت الرّيش يا جلالة الدّيك.
   تعيش تعيش تعيش، والآن تكلّمْ!

   - مهمّتي.. مهمّتي.. أن تحموني من الجمل الظّالم!

   نتكاثر. نتوزّع. مسالك عديدة. طريقه يبدأ من حيث انتهيت. وطريقك يبدأ من نصف طريقها. وطريقها أرادت أن يكون آمنا، فاستحوذت رقعا من كلّ الزّنق. يؤسّس العنكبوت في مؤخّراتنا أحزاب معارضة تريد أن تنهض بالمتاهات وتسيطر على الطّرق. ما أيسر أن ننجب أطفالا بتلك الطّريقة اللّذيذة المباحة، وأنبياؤنا يقولون إنّ اللّه غفور رحيم.. حجّتي يوم الحساب!

   - اسمي حوّاء، وأبحث لي عن أمّ.

   لِمَ تبحث اللّقيطات عن طريق ما دمن قد تفتّقن من بذور خفيّة مريبة؟ لِمَ لا يكتفين بالعيش على الهامش ويؤسّسن بشبع سعادتهنّ؟ في الأمر سرّ، فلاقذفْ بنفسي في الجموع التّائهة.

   أمشي وفي عقلي فكرة أردّدها: عليَّ أن لا أنسى أنّ أنا هو أنا. أمشي غير مبالٍ بالاعتداءات المتنوّعة:حجارة. شتائم. دفعات. لكمات... أمشي أسعى إلى أن أهب نفسي قربانا لتناحراتهم. من يدري، قد يتّحدون لطردي، فأنا الوحيد الّذي سوّلتْ له نفسه أن يمشي على غير فوضى.

   مازلت أمشي حين حاصرتني الأيادي تجذبني إلى الاتّجاهات كلّها لتترك العنكبوت يتسرّب إلى مؤخّرتي.

   - ما بك أيّها الجمل الهدّار، ملتحف بإزار، وقابع أمام الدّار؟

   - من أجل زُها بالي، وأمّ عيالي.، إن كان فيك خير، فاذهب وأرجعها لي.

   هذه العرّافة مغرية، وأنا مقرّ العزم على اغتصابها، مقدَّر هو اغتصابها. لا شكّ أنّها تنبّأتْ، وهي الملهَمة، بهذه الحادثة الّتي ستتعرّض لها بعد قليل. أجزم أنّها لن تقاوم. وستحمد القدر على ما كتبه لها. سأدعوها إلى بيتي. سأقول لها أريد أن أطمئنّ على ولدي الّذي يلازمني ويضجرني ببكاءاته. ولكن هل يعقل أن تكون عالمة بتفاصيل جسدي فتُحرم من لذّة اكتشافي وتلعنَ حينئذ تركيبتها الخارقة متمنّيةً لو كانت كالأخريات كي تتمتّع بسرّ الحياة الكبير؟

   فيلم الحياة قريبا ينتهي. آدم البطل خلّف أبطالا. الأبطال توزّعوا وأحكموا تلقين فكرة البطولة لأولادهم. الأولاد تفرّقوا... هذه الأرض لي، وهذه المرأة لي، والبحر، والخيل، واللّيل، وحتّى تلك الشّمس الغائمة لي و... الويل للآخرين.

   حين يوجد الأبطال لا بدّ من وجود الضّعاف والمساكين.

   الضّعاف تناسلوا. توزّعوا. اندمجوا مع الأبطال ليمارسوا بؤسهم.

   الحكايات متنوّعة لكنّها واحدة. كوارث. حروب. مجاعات. ظهور حضارة. أفول أخرى. صراع. حبّ. شعر. شرّ. دين. سياسة و... صور،صور، والإنسان يظنّ أنّه يحيا ويتحرّك. الغبيّ ! لا يملك في النّهاية إلاّ أن يموت. والأغبى من ذلك أن زوجه أو أخاه أو عدوّه أو صديقه، يظنّ فعلا أنّه قد مات.

   اللّيلة اللّيلة نحتفل باكتشافنا. إنّنا نحن الحياة بزمنها الوهميّ. سنفتخر كثيرا بكوننا شخصيات متمرّدة أرّقتْ مبدعها فلم يستطع أن يتحكّم فيها فتركها تنساب أنّى تريد وأنّى ترغب.

   قلتُ لذات الرّابعة عشر بعد أن ناولتني إفطاري:
   - هل تعرفين لماذا دعوتكِ البارحةَ؟
   - طبعا لتؤكد لي قدراتكَ الغيبيّة في معرفة خبايا روحي وجسدي. ألم تقضّ معي ليلة خضراء؟
   قلتُ كلاّ، إنّما دعوتكِ لأغتصب فيك السّنوات الّتي تعيقكِ عن اللّحاق بسنّ العشرين!

- هبْ، هبْ، هبْ، أنا الكلب، أنا الكلب، أعضّ حتّى الخشب، وأحرس السّماء والسّحب، وفائي من ذهب، وأمانتي من عجب، هبْ، هبْ..

  - هلمّوا بحبّ، وحيّوا هذا الكلب السّاحر، الدّار دارُه، ونحن ضيوفه، وهو العزيز الآمر.

   - أريد يا سادة أن أذكّركم، والتّذكير منّي شهادة..

  - قبل أن تذكّرنا، وبحديثك تمتعنا، ما رأيك لو شاركتنا لذّة مشاهدة الأسد في حديقتنا، إنّه في القفص كالمجنون، يزأر في مهانة وشجون، مسكين، ظنّ أنّ باستطاعته إعادة النّاقة، وترك أولادنا في فاقة، قلنا له هذه حماقة، وجزاؤك أن تسجن في قفص ملعون.

   - أو مسكتموه؟

   - طبعا أيها الكلب الميمون.

   - كنتُ سأذكّركم بظلم الجمل وشرّه، وعدوانيته وغدره. عسى أن تفعلوا به ما فعلتم بالأسد المجنون!

   حياتنا الموت. عزّتنا... ماذا لو قرّر الأرضيون الانتحار؟ أ لن يبقى شريكنا العالم الغيبيّ مندهشا؟ أ لن تسعد الملائكة بنهاية خدماتها؟

   سادتي، رحمة بالشّياطين انتحروا، رحمة بأجسادكم الموعودة بالنّار انتحروا، أقلّ زمن، أقلّ خطايا.

   من منكم اعتبر نفسه مجرما حين ارتكب ذنبا؟

   سكرتُ. تعرّيتُ. زنيتُ. ظلمتُ. أفطرتُ رمضان. عصيتُ. كفرتُ. لا أصلّي. تهكّمتُ. تحاملتُ. خنتُ. نافقتُ. تنابزتُ بالألقاب. تكبّرتُ. لا أزكّي. لن أحجّ. نقمتُ. عارضتُ و... أعتبر نفسي ملاكا لأنّي فعلا طيّب ومؤمن وواثق من غفرانك يا ربّ.

  لا أعرف لِمَ أقع في تلك الممارسات اليوميّة. هل أقع فيها لأكون شاعرا شاهدا على أنّ الإله إله والإنسانَ إنسانٌ والرّسلَ رسلٌ والبشرَ بشرٌ؟ ألستُ آية معبّرة على عظمة الواحد وتعاليه وعلى عصمة الأنبياء وقصور البشر؟

   إنّ شيئا ما بداخلي يؤكد أنّي لا أستحقّ العقاب، عزائي أن اللّه، عالم ما بالصّدور، يشاهد بكلّ حبّ ما في قلبي من عشق له وخوف منه وتوق إليه ويتأمّل بكلّ غضب - والغضب ليس منّي بل من أجلي - ما خلّفته فيَّ الأسرة وما خلّفه فيَّ المجتمع والتّاريخ والعلوم والأنظمة والدين المفسَّر والإنسان و... ربّما الشّيطان، من تراكمات تنتمي إلى عالم الشّرّ.

   - اسمكِ حوّاء وأمّكِ غريبة ترجو لقاءكِ، طرىقكِ آتٍ فضعي الحنّاء في قدميكِ، متزوّجة؟

  - لا.

   - نكاحك سيتمّ في البعيد وبيتكِ مشيّد في القلب، قولي يا ربّ.

   - يا ربّ.

   - ثمّة عديد الذّكور من حولكِ فيهم الخائن وفيهم الصّنديد، قولي يا مجيد.

   - يا مجيد.

   وا ساعاتنا المتبقيّة الواضحة. وا دقائقها المحدودة، هبّي على ماضيكِ المجيد واشمليه بحقارتكِ، لقد أعددنا الكفن الجماعيّ، خريطة متقاطعة من نسج العناكب.

   سهل أن نكتشف تسلسلنا البيولوجيّ والفكريّ. أدواري الماضية تتمحور حول الجنون والحبّ والسّياسة. لا شيء تغيّر. إنّه التّوقيف.

   اللّيلة اللّيلة نؤسّس كتاب الحياة الصّغير. حقّا إنّ الحياة صغيرة ونماذجها محدودة. فإن كنتُ أمثّل الجنون والحبّ والسّياسة، فما الّذي تبقّى لكم؟

   هيّا لخّصوا تلك الأوهام وتخلّصوا من تلك المتاهات الّتي أسّستموها سهوا.
-----------------
*ضربة موجعة.
**سرم است الرّجل.
***عراّفة.
الحكاية (قصّة قصيرة) بقلم عبد الواحد السويّح / تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 14 يونيو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.