الشاعر و المترجم الدكتور سرجون كرم في حوار مع الأديبة الدكتورة لطيفة محمد حسيب القاضي
الشعر ليس أولويّة أدبيّة في أنحاء هذا العالم... الشاعر والمترجم اللبناني سرجون كرم
سرجون كرم، أستاذ جامعي، باحث أكاديمي، شاعر، ومترجم، من لبنان؛ أستاذ في اللغة العربية وآدابها في معهد الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة بون ألمانيا، وهو ناشر ومدير مشروع الترجمة للشعر العربي الحديث إلى اللغة الألمانية في ألمانيا. له خمسة دواوين شعرية، عضو في الاتحاد المتخصص للغة العربية في بامبرغ ألمانيا، وعضو اتحاد الكتاب اللبنانيين.
في كل مرة ألتقي به، أظن بأنني أربكه بأسئلة عصيِّة، فيخرج منتصراً بأناقة لغته من شقوقٍ سرّية يعرف أبوابها وحده فقط. لديه كمّ كبير من الغنى في المتخيل والرؤية التي تتسم بها إجاباته. لديه رصيد إبداعي ثري لمواقف في الحياة والأدب والشعر والترجمة خلال سنوات من عطاءٍ أكاديمي، وحفرت أعماله عميقاً في المشهد العربي الألماني. عُرف سرجون كرم بحرفه الجزيل وامتلاكه لأدواته بموهبته الفذة في انتقاء الكلمات. يرسم صوراً مميزة في كتاباته من المعقول واللامعقول. في شعره يتمايز بطرحه الأسئلةَ الكبرى للحياة والوجود، فيمر بين متعاركات الشيء وضده، منتصراً للحرية والجمال والوجود وإنسانيةِ الإنسان .
ينفتح الحوار مع الشاعر والمترجم اللبناني سرجون كرم على أسئلة القصيدة بممكناتها التخيلية وخياراتها الإبداعية والجمالية لتأسيس شروط وجودها في الذات كما في الكون. هكذا يكون الحوار سيرة حياة شاعر وأكاديمي ومترجم
في هذا الحوار يقودنا إلى سفر شيق يهِب خصوبته للمتلقين بوصفه شهادة حسن النية في مصاحبة القصيدة لأسرارها الخبيئة. ينفتح الحوار على أسئلة القصيدة بممكناتها التخيلية وخياراتها الإبداعية والجمالية لتأسيس شروط وجودها في الذات كما في الكون. هكذا يكون الحوار سيرة حياة شاعر وأكاديمي ومترجم.
لو حاولنا تعريف لفظة "شاعر" بالمعنى المبسّط والقانوني، فإنّ الشاعر هو مؤّلف قصائد، أي هو شخص يتعامل مع فنّ الكتابة. ولو حاولنا البحث عن مختلف التعريفات التي أطلقت على الشاعر والشعر لجمعنا مجلّدات حول هذا الموضوع بتعريفات مختلفة الاتجاهات، أكثرها شاعري ومطلق، تمتدّ من الوظيفة إلى القدر إلى الجرح الكونيّ النازف.
لا أحد يجرؤ في العالم العربيّ على القول إنّه روائيّ، إلا إذا كان بالفعل يكتب رواية، إلا أنّ أيّاً كان يمكنه أن يطلق على نفسه لقب شاعر، مهما كان مستوى النصّ الذي يكتبه، ويكوّن فوراً هالة حوله. فالعالم العربيّ في طبيعته ما زال يحتفظ في ذاكرته الجمعيّة بصورة الكاهن–الشاعر والمتعامل مع قوى غيبيّة تنطق سجعاً ورجزاً، ولم يعد ينقص إلا أن يسمّي كلّ شاعر شيطانه.
بذرة الخلق في الشاعر الحقيقي لا يمكن تعلّم خلقها، بل تعلّم تنميتها. الشعر ليس وظيفتي في الحياة، بل ما أقوله وأريده وأبتغي الوصول إليه من خلال الشعر، وهو إنسانيّتي وإنسانيّة الآخرين، هو الوظيفة.
الدور الذي يلعبه الشعر في حياتك، أقصد: ما الذي كان يعنيه الشعر من قبل وماذا يعني لك الآن؟
كتبت الشعر في عالمين مختلفين. بداياتي كانت في لبنان. كان الشعر بالنسبة لي لا يخرج عن الجوّ العام للشعر هناك أو في العالم العربيّ. في ألمانيا شهدت قصيدتي تحوّلاً كبيراً، وخصوصاً من خلال القفزة الكبيرة التي أتاحت لي الفرصةَ للاطلاع على الأفكار الاجتماعية والفلسفيّة ومناهجها من المصدر مباشرة. في ألمانيا نضجت فجأة، وأدركت المحدوديّةَ التي كنت سأبقى فيها لو لم أغادر العالم العربيّ. ناهيك عن مساحة الهدوء التي تسمح لك بإعادة تقييم جميع الأمور.
لا يوجد من معجزة تتحكّم في العقل العربيّ أكثر من معجزة اللغة. لذا لا يمكن لأحد أن يصدّق أنّ الشاعر يكتب فقط لنفسه أو ليخبئ نصوصه في صندوق مقفل. حتى تلك الطينة من الشعراء التي تكتب وتبقى بعيدة عن الأضواء والعيون، فإنّها مقتنعة في قرارة نفسها أنّه سيأتي يوم ويبحث فيه أحد ويكتشف كتاباتهم.
وغير ذلك سيأتي من وراء الشاعر من يظهره أو يتخلّص منه. ولأنّ كلّ شاعر يعتبر نصّه هو الأفضل، أو يسعى إلى ذلك، فإنّ المرحلة اللاحقة للقصيدة، وهي النشر أو الانتشار، تكون حتى في أحيان كثيرة سابقة على القصيدة. في هذا السياق تبقى العلاقة بين كتابة القصيدة ومتابعة صناعتها دائريّة لا تنتهي، وعلى الشاعر أن يكون جازماً في موضوع تحديد ساعة نشرها، لأنّ الكمال لا يمكن الوصول إليه، بل إلى أفضل نقطة في الطريق إليه.
كيف تولد وتتشكّل القصيدة مرحلياً في داخلك؟
لستُ خبيراً في شرح الحالات النفسيّة الخاصّة بي. قرأت مرّة بعض الشعراء وهم يقسّمون مراحل نشوء القصيدة في دواخلهم. كان الأمر غريباً بالنسبة لي. كلّ ما يمكن أن أقدّمه في الإجابة عن هذا السؤال ما كتبته شعراً:
أتعرف كيف أكتب الشعر؟
تمامًا كما أدخل حمّام الساونا
أنسى أحبّائي
أنسى أصدقائي
أنسى أعدائي
أنسى فشلي في لعبة كرة القدم
وكرة الطاولة
وكرة السلّة
والكرة الطائرة
أنسى الصور القليلة للسنوات العشرين الأولى من حياتي
العالقة في ذاكرتي،
أنسى نشرات الأخبار وتفاهة الأخبار الثقافية وصور الحروب
الأهليّة،
أنسى متعتي في تأمّل صورة المجرم لدى السفّاح والضحيّة،
أفقد شهوتي في أن أتكاثر كي أكون مع ألف امرأة أحبّهنّ
وشهوتي في التفكير بلون أعينهنّ وشعرهنّ
وبشعور الاطمئنان حين أنظر إلى أصابع أيديهنّ
وهدوئهنّ المكبوت وهنّ ينتظرن أن أتحرّش بهنّ.
فقط أنظر كالأحوَل إلى نقطة العرق المعلّقة على أنفي
مثل أرواح البشر المعلّقة كالدعاء بين الأرض والسماء،
ثمّ أحدّق في السقف اللعين
وأركّز كيف أبقى على قيد الحياة.
بكلّ تأكيد. لا يمكن فهمُ قصيدة وتحليلها علميّاً إلا إذا تمّت الإحاطة بشخصيّة كاتبها ومحيطه الاجتماعي وتوجّهه الفكريّ. أنا لا أختفي خلف نصّي، فما أكتبه هو ذاتي وشخصيّتي.
اللغة الألمانية تتيح لك أن تترجِم كتّاباً و أطروحات. السؤال هو كيف يقع اختيارك على الكتاب المترجَم؟ لماذا تختار أن تترجِم هذا الكتاب وليس ذاك؟ هذا الكاتب وليس ذاك؟
حتّى الآن لم نخرج في مشروعنا عن ترجمة الشعر العربيّ الحديث إلى الألمانيّة، ما خلا بعض الجهود الفرديّة للمجموعة المشاركة في المشروع، والتي قامت بترجمة بعض الدراسات والكتب. غير أنّ هذه الترجمات لا تدخل ضمن مشروعنا الأساسيّ. لقد مرّ مشروعنا بمحطّات كثيرة، ويمكن حصر البدايات بباب التجربة وتحديد المسار واكتساب الخبرة. ونفضّل أن يبقى مجهودنا في إطار يمكن الاستفادة منه يوماً من الناحية العلميّة.
فمن جهة نقدّم إلى المكتبة العلميّة مجهوداً في الترجمة الأدبيّة، ومن جهة أخرى نحاول عبر الأنطولوجيات الشعريّة وبثيمات مختارة أن نقدّم الصورة الثقافيّة للمناطق الجغرافيّة التي تمّ اختيار الشعراء منها. الأدب في حدّ ذاته من أهمّ أشكال التعبير عن ثقافة الجماعة التي تعكس البعد الاجتماعيّ والنفسي فيها. أمّا عن اختيار الأسماء فنسعى إلى حصر النصوص الأجود والأكثر تعبيراً في أي مشروع، بغضّ النظر عن الأسماء والتي نتعاون في اختيارها مع أصدقاء في العالم العربيّ.
أنت شاعر ومترجم معروف، كيف تفسر لي كتابتك للشعر؟ هل من منطلق ديني عقائدي أم من منطلق حرية التعبير عما يجول في المشاعر والقناعات؟
لعلّ السؤال يدفع كلَّ من يجيب عنه إلى اختيار الاحتمال الثاني وهو حريّة التعبير، منعاً للوقوع في فخّ الاتهام بالانحياز إلى باب البروباغندا العقائديّة أو الدينيّة. إذا بحثنا في التاريخ الأدبيّ العربيّ لوجدنا أنّ الكتابة من المنطلق الدينيّ بالنسبة إلى الوعي الجمعيّ العربيّ محمودة مع شاعر الرسول حسّان بن ثابت. وإن نظرنا إلى قصيدة "المعلّم" لأحمد شوقي لخيّل إلينا أنّها كُتبت انطلاقاً من المشاعر والقناعات.
ربمّا الأمر كذلك ولكنّ شوقي كتبها بتكليف رسميّ واستوفى أجراً عليها، ولولا ذلك لما كتبها ربّما. شهدت القصيدة العربيّة مع بدايات النهضة العربيّة تحوّلاً في مفهوم الشاعر نفسه، إذ لم يعد بوق القبيلة، وإنّما بدأ يسعى إلى العزف على قيثارة الإنسانيّة.
الشاعر في عصرنا هذا، مثل كلّ شاعر، هو عضو في بيئته ومجتمعه بكلّ ما فيهما من عقائد دينيّة وسياسية، يضاف إليها مشاعره وقناعاته الفرديّة الظاهرة والمستترة. ولكنّ الشاعر الحقيقيّ هو من يسخّر رموز الأفكار والعقائد في بعد إنسانيّ وكونيّ يمكن أن يخدم الإنسان لألف سنة مقبلة، حتى إن كان يصوّر مأساته الشخصيّة الخاصّة به أو عكسها.
سأحاول أن أجيب بطريقة لا أُواجَه بها يوماً ما، في حال حصلت على جائزة، "ألست أنت القائل...؟". أرى أنّ عمل المترجم هو عمل علميّ والأفضل إيفاؤه حقَّه المعنويّ أوّلاً، ضمن إطار المؤسّسة العلميّة والرصينة والهادفة إلى إعلاء شأن الثقافة. وهكذا لا توجد مؤسّسة إلا ضمن نظام متكامل في الدولة. الجائزة العربيّة تاريخيّاً هي لعنة. ولنا في عصر التدوين مثال كيف كان رواة القبائل يتهافتون إلى البلاط، ومنهم من بدأ ينسج من خياله أملاً في الحصول على أعطية.
الجوائز العربيّة حتى عصرنا هذا قائم معظمها على العلاقات الشخصيّة والتوصيات القائمة على الصداقة والخلفيات السياسية والعقدية. أحياناً أفاجأ بأسماء مترجمين في العالم العربيّ قاموا بجهود جبّارة في ترجمة آثار عالميّة ولم يذكرهم أحد إلا يوم وفاتهم. لذلك أفضّل أن تكون هناك مؤسّسات رصينة تضع برنامجاً هادفاً وموجّهاً، وتكلّف المترجمين بالأعمال، لا أن يُترك المترجم للعبة الحظّ والعلاقات في تكريمه.
متعة، وفي الوقت نفسه أراها سيراً على حبل معلّق في الهواء. ترجمة الشعر مهمّة شاقّة جدّاً على عكس ترجمة الكتب العلميّة أو الوثائق أو اللغة القانونيّة التي تتطلّب فقط إلماماً بالمفردات وصياغتها بطريقة موحّدة، بحيث تكفي ترجمة واحدة للنسج على منوالها في المستقبل. في ترجمة الشعر، إن التقى مترجمان يكون هناك ثلاثة آراء. أحياناً تحتاج قصيدة قصيرة مكوّنة من بضعة أسطر وقتاً يمكن فيه ترجمة صفحتين أو ثلاث من كتاب
المسألة في عصرنا أنّ الشعر ليس أولويّة أدبيّة في أنحاء كثيرة من هذا العالم. فليس هناك من شخص صنعتُه الشعر ووظيفته الشعر وقدره الشعر، إلا في العالم العربيّ وبعض دول العالم الثالث. لو استعرضنا الساحة الشعريّة المعاصرة في عالمنا، بتفاصيلها ومعطياتها، لخُيّل إلينا أنّ مفهوم الشعر والشعراء ما زال في مفهومه الذي كان زمن الجاهليّة.
يمكن توظيف مقولة الشاعر الرائع بسام حجّار في سياقات متعدّدة تصبّ جميعها في ما كوّناه عبر التجربة والخبرة في هذا المجال، وهو أنّ مقولة "الترجمة خيانة للنصّ" هو ضرب من الوهم ولعب على الكلام. "لولا الترجمة كنّا سنعيش في مناطق يحاذيها الصمت"، كما يقول الفيلسوف الأمريكي جورج ستاينر.
سرّ الترجمة أنّها تفضح النصّ وتفضح عمقه أو سطحيّته. ليس هناك من نصّ لا يترجم. والشعر الحقيقيّ هو الشعر العالميّ، أي الشعر الذي يصل إلى القارئ بأيّة لغة كان، بكلّ أبعاده النفسيّة والاجتماعيّة والفكريّة والإنسانيّة. لذا اللعب على الصورة الشعريّة الخالية من الفكر والبهلوانيات اللغويّة الخاصّة بكلّ لغة، ميدانها الناطقون بهذه اللغة. أمّا بالنسبة إلى القصيدة التي تخاطب الإنسانيّة، أي القصيدة العالميّة الصالحة لكلّ لغة، وكلّ ما سبق ذكره، فإنها تعرّيها الترجمة.
ليست هناك تعليقات: