ثلاثة عشر نصا للشاعرة التونسية نسرين المسعودي


أمَّا أنا
فأحببتُ اسميَ منذ الطفولةِ
وحفظتُهُ في ظُلمةِ الرَّحمِ
كي لا يَغرقَ!
أحببتُ جسديَ المُتعَبَ
من الرَّكْضِ واللَّعِبِ في الغُروبِ!

أحببتُ أَضْلُعِيَ حينَ تطرقُ قلبيَ
في هُرُوبٍ شَهِيٍّ
من حَفِيفِ ما جمعتُ!
 همساتُ الأثاثِ
 صدى الجُدرانِ
صفيرُ الرِّيحِ حينَ تعزفُ اسميَ
قواريرُ الجَعَّةِ
 المُكتَظَّةُ بالأنينِ فوقَ الرَّصيفِ
أصابعُ الأرواحِ
المُلَوِّحَةُ من خَلْفِ زجاجِ الحاناتِ
الأسطواناتُ القديمة
التي كانت تنبعثُ من الأريكةِ
تحتَ أردافيَ الطَّرِيَّةِ
الصَّوتُ الدافئ الذي كان يملأُ اللَّيلَ

أحببت الخَشَبِ الأَملس:
 سميته وطنٌي !

وجدته مُتَفَانٍ برِقَّةٍ
وقسوةٍ ولطفٍ وعنفٍ!

  مدينة العشقَ الفوضويَّ
سميتها غربتي
عانَقتُ
              الأسِرَّةِ!
                      والمَنَاضِدِ
              والإطاراتِ المُتَكَسِّرَةِ!
عشَتُ  الذُعْرٍ
بينَ الحقيقةِ والخَيالِ!

أيعرِفُ أحدَكُمْ  مَا يُوجدُ في  جَوْفِ الخَشَبِ؟

إنهم  نساءٌ وأطفالٌ وشُيُوخٌ مُتعَبونَ
احمرَّتْ جُلودُهُمْ
من شُعاعِ الشَّمسِ وغضبِ الفُصُولِ!
إنها أجسادٌ تتعرَّى في غاباتِ اللَّوْزِ

وَشَجَرِ البَلُّوطِ

وشذى الكالابتوسِ

ذاكرةٌ تَتَعَطَّشُ

             لنافورةٍ

         من الدَّمعِ المُضِيءِ!!

أُمَّهَات فَقَدْن      أَبْنَاءَهُنَّ!
يُغَنِّيْنَ  ويَعْزِفْنَ
  يبكين كلَّ مساءٍ!!!
في شَفَقٍ مُشْفِقٍ حزينٍ!!

          هذا الوجعُ الدَّفينُ

                  فَوْقَ

          ضَفَائِرِيَ الذَّهَبِيَّةِ!

               ورِحْلَتِيَ

               الطَّويلةِ!

 أحببت الخشب الأملس
و أعواد الثقاب
 و أحرقت صَدرِيَ برسائلُ لم تُقْرَأْ!

أحقا  للنِّساءِ جُِذوعٌ وأوراقٌ وثِمارٌ؟!
أحقا للرّوحِ أصَابعَ من ماء؟!

تَطْرُقُ أظافريَ أبوابَ الخَزائنِ
تُنَقِّرُ فَوْقَ الطَّاولاتِ
تُخَرْبِشُ بالسَّكاكِينِ والمَلاَعِقِ
أُقَطِّعُ البَصَلَ
أذرفَ الدموعَ وأحتسيَ النَّبيذَ!
 أُوقِظُهُنَّ من السُّباتِ
أُعَطِّرُ الغُرَفَ بالخُزامَىٰ
وأعوادِ القِرْفَةِ
أُمَشِّطُ شَعْرَهُنَّ الأَسْوَدَ
أفُكُّ حِنطَةَ الطيورِ من أعناقِهِنَّ
أَدُسُّ في الأركانِ روائحَ العطرِ
والزُّيُوتِ
أخشى أن تَتَسَرَّبَ
روائحُ البَرْدِ في بيتيَ
أن تبتلعَنِيَ أصواتُهُنَّ!

 أَحبٍبت كُلَّ شَيْءٍ
صامتٍ!
أخرسَ!
مذكورًا كان أو مَنْسِيًّا!
دافئًا كان أو نُحَاسِيًّا
أحبّبت
السَّتائر والفناجين والمصابيح
والسِّلال والأقراط اليتيمة!!!!!
أحبّبت
السُّقُوف الخَاوية
الرسائل الشَّاحبة
الهدايا و قواريرُ العطرِ الكلاسيكيةُ
الأكياسُ المُمَزَّقَةُو الأوراقُ المُتَنَاثِرَةُ
بابُ المِذياعِ المخلوعُ
و حقائبُ السفر!!
أحببتُ كلَّ شيءٍ!
كلَّ فَمٍ
اقْتَلَعَ لِسَانَهُ! أسنانَهُ! مَخَالِبَهُ!
ثُمَّ قَضَمَ ذاكرةَ الحديثِ!
وَنَسَيَ كيفَ تُرصَفُ الحروفُ؟!
وكيفَ تُوْلَدُ اللُّغَةُ؟!
أحببتُ  الفَنَاءِ!
دونَ وعي!
دونَ حزنٍ!
دونَ خوفٍ!
و علَّمْتُ قلبيَ المُوَاسَاةَ!

كي لا أحتاجُ فُرشَاةَ تَجمِيلٍ!
كي لا ينفلتْ من العَرَقِ
 موج من الشَّعرِ الأزرقُ
كي لا  أركض بعيدا في المدى  
 أخلص  للخَشَبِ!
 أسميه وطني
و أكتب  اسمي .
 ***************

أمام النافذة،
يقول المقبض في حرج:
هات يدّك الحبيبة،
أحب دفء أصابعك النحيلة.
من هنا، أُفتح بضمّة؛
من هنا، أغلق بشدّة.
يغيب الصوت و ينتشي فوق الغمازات.
تبتسم
و يحزن الوشاح فوق كتفيها؛
تذبل ألوانه؛
تقترب ببطء، كالمساء، من الزجاج.
تستغرب
من انعكاس وجهها،
تختلط الدهشة بالانشراح،
و تهتزّ كقصبة ريح باردة.
اشتقت إليك
ألن تكفّي عن المزاح الثقيل؟
انت جميلة...

أمام المسبح
تتناثر روائح الزيت و تعبر الجسد المتعب،
تنحني الشموع و تنام.
يقول الرخام المرمريّ المزخرف:
سيدّتي، اقتربي لنغرق
في ثلج و في نار،
نسبح كالحيتان،
نلتصق ببعضنا البعض،
نتعانق في ولادة عسيرة،
نفجّر ينابيع الروح
و نمزج الماء الدافئ بالماء البارد؛
نخضع و نحمّر و نبرد
لتسقط عنّا السنوات
و الطرقات
و القبلات
في خرير عشق و حنين مقدّس.
تجرّ الشبشب الصوفيّ المبلّل،
تكسر أعواد القرفة في رقّة
كالشِّعر
كالوجع
كالخبز الساخن في الصباح،
تقطّعه في غبطة و صمت،
تُسقط الصابون المعطّرّ،
تنظر إلى الجليز الابيض في ذهول:
بنيّ! بنيّ!
عطر أبيك ينسكب!!
من فعل هذا بأبيك؟!!
من أكل تفاحة أخيك؟!!
من ترك السماء من دون غطاء؟!!
 ثقب في السقف!!
 تمطر!!
إنها تمطر هنا!!
كيف سأنجو؟!!
   ***********

la vie est belle
هي قنينة عطر فارغة تبتسم
 و  باقة ورد جافة تلطم زجاج المزهرية
 هذا  كل ما ورثته من الجمال

سذاجة الايام 
وذاك الحنين المعتّق في قلبي
و صبية  عاشقة كأنّها البارحة، 
و عطرك العالق على جسدي
و ربيع  الضحكات

الحياة جميلة   la vie est belle
لا شيء دونك يخبرني بذلك !
ربما كان إسم العطر آخر همس شفيف ردّد اسمي
لكنني لم انتبه !
قد يحدث ان تنطق الرسائل حين تكبر وتتجاوز الحبو
كالاطفال تتقن الرموز والحروف
تجمع الكلمات المتقاطعة
أو حين تجيد الرسم وتبهرها الألوان
المسكوبة على البياض في دهشة
مثلما يحدث أن تعانق نفسك حين تمطر
ويعصف فؤادك
يهطل حبرك الترابيّ في الصدى
أو حين يصادفك العشق المطعون بأسهم النهايات،
فيقتحمك الوجع الحلو في مذاق القبلات الشهيّة
تحت الاظافر والاهداب
بين الاصابع المتعانقة كالاعناب
في معركة الانفاس
تعود إليك البكارة والعفويّة
فلا تقرأ العناوين
ولا تفك الطلاسم والصور
ويخذلك مكر الهروب في انقاذ قلبك
من الشهوة والرغبة والرجفة ...
يحدث ذلك، وانت في ثورة اللحظة طنينا من الفراغ والخواء والعراء..
تستبدل الجوارح بنوارس مهاجرة الى الفناء
ويطبق الخراب  على ذواتنا ونحن في لذّة استعباد
فندرك ذلك لاحقا..
إنّ ظلّ الحبّ في انعكاس الاجساد على المرايا اعتناق وتصوّف وحقيقة
وأننا أوتار مشدودة بالعظام واللحم والدم
لا تحركها سوى آلهة خارقة
تجيد العزف والرقص والشعر والعناق
تتقن طهي القلوب واحتساء النبيذ
تجيد الغرق والتحليق
ندرك ذلك حين تتهشم الطرقات كالزجاج
وتتمزّق نعالنا من دون لقاء
حين يشيخ فجأة صوت الطفل بداخلنا
ونلمحه كرجل مسافر عابس الفؤاد
يشق النداء غير عابئ بحواسك المستغيثة
يلوّح بيديه ويركض عكس اتجاهك
يضيف إلى القهوة ملاعق الملح
ويترك مقعده للريح والذكرى
يحدث أن تغفل عن الحياة حين صادفتها في وخز يشبه الفقد
تسحب يدك من الشمس خشية الاحتراق
فتحترق على كف الصقيع
la vie est belle
هذا كل ما ورثته منكَ
ومن الجمال...
هداياك
    ************

جرعات أخيرة  تطارد   الذوبان
 تحرق الأفكار  في شمعدان
يستنشق الكأس انكساره العظيم...

البارحة قصيد
بعنوان اليوم يلفظ  أنفاسه

يضحك الليل ملء فمه
و يرقص الثلج في كأس الشراب الاحمر
على وقع الايقاعات الغيمية

رأسي ثقيل و لا فكرة لدي
أشغل موسيقى الفلامنكو الرهيبة
فتعصف أوجاعي
 تقترب  الجدران
 تلف أصابعها حول قلبي

جرعات أخيرة
و يهزمني الدوران .
     *************

لم نترك منفذا للريح
لم نترك للنايات
صوت المطر
 نركض كأنفاس الماء
بغابات  الضجر
أصابعنا تشد الشهوة من ياقتها
نخطو في حذر و ريبة
يطوقنا الرعب
 تسجننا الظلال

أنط في زجاجة مغلقة
أعانق نفسي
أوبخّ نفسي
مجرد اثنين
في صورة معلقة
أصابها الغبار بالربو
ركبتُ البكاء بلا اكتاف
الرسائل ستسند رأسي

كنت رجلا لا يجيد الليل
ولا يقدم الحلوى للجياع
يحترق لسانه من مذاق السكاكر
و يضيق صدره في العناق

لم تترك لي فرصة الرجاء
أو سدّ رمق الخواء
كنت سلحفاة ساخرة
لا ترعبها صهوة الخيول

خطيئة النار
أعواد الحطب
فخاخ الطريق
أنا
   *********

لست وحدكَ حزيناً...
بالكاد.. تلمحُ صوتكَ،
أنا أيضاً حزينة...
بالكاد.. لا أسمعكَ !
أنمو بعيدة في حذر، كشجرة برية موحشة.
أنضج ببطء وتعب، فتتقارب الظلال،
وأُشخصُ ببصري دون جدوى!
لست وحدكَ عدميّاً..
أنا أيضا مثلكَ، مؤذية كشهوة الوجع
أنام في لحاء سميك عبثيّ الملمس
أخضرُّ في أناتي،
أشدُّ طولي،
أُبرِّدُ الهواء،
ولا تطير أوراقي ؛
ولا تتعرق أغصاني؛
أتجرّدُ كتمثال هادئ،
تفِرُّ من أوكاري النوارس والرسائل،
ويجفّ الحبّ من ضِرع الخشوع والابتهال.
لست وحدكَ مزدحماً كطريقٍ!
أنا مثلكَ مكتظة بجرائمي؛
أعانق الشفق المصفر، وأهذي في محراب فسيح.
أسوس الحزن إلى مثواه الأخير وأقبّل المطر من زنده
أنتَ لست الوحيد الذي يؤلمني...
فلا تعتذر!
أنا أيضا أُؤلمني جداً
أقطع عنقي ألف مرّة في الطريق
ألتفتُ إليكَ لتدثرني الريح بملاءات الحزن الوفير
لست وحدكَ الميت!
أنا مثلكَ عروس قطنية أراقص أطرافي
غريبة..
بالكاد أعرف عنوان بيتي
وأثر الطاولة والمقاعد والقواقع
أحرس نغم الجاز وطعم النبيذ
أضل الطريق الى السرير
أنا مثلكَ بلا فائدة...
لا أتقن إلّا سواكِ!
أتضخم لأجلكَ..
أتبخر من أجلي
أكابر الأوجاع من أجل دعوة عشاء
أنازع فيها سقوطكَ
وأروض سقوطي من تحت القماش
كي أبدو هادئة..
أنيقة..
ألاعبُ أزراركَ
أتوه كالأميرات في شَعركَ المرصف بأقلام حمراء
وموانع من خزرات
لكنّي أجيد القراءة
ولا أجيد الكتابة...
برغم ما كتبت،
أعوّل على بكائي كلّما أحببت نصاً
أذكركَ دون قصيد
أذوب في بهاء وضنیٰ
أقضم أصابعي لأرسمكَ في ضياء
وأكتبني شاعرة مثلكَ
أركل الدمى والأحذية،
أصفع الأبواب
أشتم العالم
وكل الأرباب
مثلكَ
أدخن بشراهة
أسكر بشراهة
أجوب عارية في منتصف الحديث
لا أنظر إلى الساعة
مثلكَ
يُصيّرني خطّكَ الرديء ذئبة بيضاء
تطارد الغزلان والطيور
فأعجز عن الصراخ
لأحبّكَ مع مطلع كل حرف
مع انني لا أجيد الكتابة
لكنكَ لست وحدكَ شاعراً
تطوي الارض في نهديّ
تفجر نهر أنفاسكَ في وريدي
أنا أيضا، طوّقت السماء
سجنت الشمس في فجوة أصابعكَ الحزينة
لأني...
مثلكَ
يا أنت...!
  *************

سابقا
كنا نخاف من الوحدة
تخرج أمي و تترك صوتها حذونا
كنا نخاف من الظلمة
نرصف الحكايات  فتشع  بالحنين
سابقا
كنا ...
و كنا ....
لكننا...
 لم نفكر في  أن لا نكون....

اليوم

 في ضجيج الضوء .
غرق صوت أمي في وحدتنا.
و اختفت الظلمة  في  صمتنا .
و   لم نجدنا .....
       **********

و يعلم التيهُ
كم عمر قلبي، وانت لا ..
كم شمعةٍ دحرجتها الرياحُ في متاهات العمر
و كم  كسرا في الفؤاد  يترنح
جبرهُ المساء  بالنسيان
 و ضمّده الصدى  بالموسيقى،
 كم من شرخ في حنطة عمري
و كم من عش فارغ  في صدري
و كم من وريد صلب 
 صار عكازا يرافقني وقتي 

فلا تسأل غيري.. عني.
 في حياتي  لا شيء مهم يستحق الذكر
فمن المضحك أن يكون للأشباح وجوه معلومة
و حكايات و أصوات.

إنما هي  سنوات حارقة
 تحت سماء التمني
كان الطريق  فيها ضباب ووهم
و كنت لا أحتاج سواي ليرافقني 
فوحدي لن  أملّني،
 و لن  أتركني في نصف الضياع...
 كنت خفيفة، لا ظل لي
و لا ذنب و لا فضيلة؛
لا يُشار لي بسبابة .
 و لا يبشّر، بانتظاري، حضن و لا سرير.
 تصيبني الغواية
فلا يضمّدني سواي!
ممتنة لنفسي بكلّ الخراب!
في البكاء،  أبدو  مضيئة!
لا أحتاج أضواءً
لأشع في الظلام؛
أسكب ظلي معتقا
فتسكر الثقوب
و تتسع
 روحي.. بي.

لا شيء في حياتي يستحق الاهتمام

أ تدهشك ابتساماتي ؟
اقترب؛ لترى
فمي  المثقوب!
انما هي  جدائل الشمس نائمة في قلبي
و نور الوحدة  تنبعث من فجوة الثغر.
أ تدهشك لمعة الزخات في عيني؟
اقترب، لتسمع أجيج الأنات؛
انها أشباح ببؤبؤ عين الحزن الرمادية
تذوب كقطع الثلج في النار
 حفنة أفيون.. ملامحي؛
تسكن الصقيع و الألم 
و قطرة بنزين تضخ الدم المتصلب
تطهو هذا الجسد الثقيل ببطء و رأفة.
أ تدهشك رغبتي في الكتابة؟
اقترب، لن تجد للحرف طمسا و لا أثرا
إنما هي لعنات نكررها
و يخيّل إلينا أننا نشفى؛
نشفى من صدأ النفوس!
لا شيء في حياتي يستحق الذكر
و يعلم التيه كم عمر قلبي ؟
و كم مرة نجوت؟
        ***********

ها أنا
أمرّ  بآخر نص لكَ
كمنْ تخطو فوق أعواد الثقاب
تنتظر الاحتراق في أيّ لحظة
تتسلق جبالاً باكية
القمم لا تذرف العطور
لتقصفها الأمطار
ها أنا
أسدل الأسطر كي أراك
 كنت غبية حين توهمت السكينة فوق صدركَ
فالنسور لا تشبعها الجثث
و كنتُ جثة ظريفة بين أظافركَ.

ها أنا
أتذوق ألوان قلبكَ
بنهم مارق
بفوضى الشعر البارد
تحت ظلّ سريركَ المحترق
أتعثر بالنقطة الأخيرة
فيراودني إسمك عن نفسي،
يخترق عظامي وجع عظيم
الوجع الذي لا يمر
بل يثقبنا بمسامير ومخالب

نصكَ هو وجهك البدائي
ذقنكَ المهمل
نظرتكَ الجائعة
وملامحي تغطيكَ كفروٍ ناعم
أشمّ رغوة الليل في منتصف النهار بأنفاس الفقد
وحسيس الاشتياق
أدنو بفمي أقطف من الصدى صوتكَ
أسندني إلى الجدار
أدُقّني كإطار هرم يتمايل
فأعود إلى نصكّ مرة أخرى،
أبتدأ بترصيف مذاقكَ فوق لساني
لتفيض من حلقي قصيدة من ماء
وتغرق  حنجرتي
فلا أقوى على قول" أحبكَ "
فأبكي طويلاً
بحواسكَ
أشهق برئتيكَ
وأركض بقدميكَ
أسعل بصدركَ
وأدخن بانتحاركَ

ها أنا
 في نقاطكَ المتتالية
ألعق الملح حذو شاماتي
أكذب كالجميلات اللواتي حولكَ
أضع تعليقاً حزيناً...
وأمضي..
لأرتب أحمر الشفاه
وأُغدقكَ بالتعاليق الشهية
لا أعبأ بحزنكَ

ها أنا
أمرّ مثلهنّ
أضيف ليومي قطعاً من السكر المتساقطة من جلدك
أحتسيكَ فنجان قهوة باردة
في الصباح من دونكَ
بمذاق آخر
لا يعرفه لسانكَ
ولا يحتضنه عطركَ
   ************

القلب محتضرٌ
من فجوة الوجع
قد ضمه الليل
حين اغتال رؤياه
ها يقطف الذعر
من امشاج عثرته
يحثو السراب
فيبكيه محياه
خذني اليه
وضمد غربتي وطنا
قد صدني
ودمي أدماه
مجراه
  ********

المرأة التي تسكنني  لا تنام
تحرس القمر
الحزين في صدري

-الزهرة البنفسجية
تلك التي نمت في شفق الصدى
تتعطر  كل يوم  بالغياب

-لا وقت للعتاب
قبّلني  لأحترق 

الخيانات  قوارب نجاة ورقية
في الليل تغرق بالحنين


-من قال انّ الحب للضعفاء
لقد كنا أقوياء
 نرتكب الجرائم
و ننام فوق الدماء



-تغيرت رائحة الفساتين
صرت أرتدي الموتى
و أحيك أزرار الوجع

-في الحرب ننتصر لأ جلهم
و في الموت نبكي لأجلنا

-كنت اليد الخرساء
و كان شعري القصير يثرثر

-كلما تعلق قلبي بالهجرة
سقط جزء من جواز السفر
و أشتاق لوطني
 

لا قبلات في  الثورة 
شفاهنا صلبة   

-أحاول في المساء أن اكون جدارا  خلف الحانة
لأتابع  أخبار الدولة
و الاقتصاد

أحاول مرار في السرير
أن أقتل فكرة   الزواج
  أدرب     جسدي  الحرمان
        ****************

 مرهقة و في حالة استنفار ،
 يتوه   لساني فرارا .
يخونني صوتي .
يخونني صرير قلبي ،
 مرهقة
أجالس  ظلي ...
أرطب حلق  قلمي
أهيء له الليل  .
  مرهقة 
 اكتب كثيرا
كثيرا ،
دون انقطاع،
أزعج من حولي،  كل الاوقات .
أكتب
بلا شعر
بلا قافية
بلا عنوان  

اكتب
الحرارة
و الصقيع
أكتب الشهيق و الزفير 
أجتاز الاسوار...
و المباني ..
ادرب قردا نائما بداخلي  ،
لا ألتفت خلفي ،
أغتالني من كل صوب .
كأسير أبكم يصرخ  في ظلمة صماء
مرهقة
 يراودني الشعر  من  كل صوب
 يتسلل إلى فراشي
إلى ملابسي  القطنية  
 يتحسس  جسدي بأصابعه
 يبحث عن انتفاخ بالوريد
أو   عطب في الجانب الايسر 
عن شرخ  قديم
او شجرة دلب حزينة
مرهقة
أسكب  الجعة  الباردة
فيتصلب شالي الحريريّ
لا رفيق لي يدنيه
مرهقة
 صدري حزمة من الاكليل
 صهيل  كثيف
 و  فمي بئر عميق
دس النسيم فيه اوجاع الغبار و انين القش و الاغصان  
اسكب الجعة الباردة
حتى اذا انتفض وجه البستان
و غمرني وجع الصدى
أدركت انني عبرت غابات النشوة
 و تجاوزت السهول
أنحني كوردة اتعبها الانتظار
فعانقت رحيقها
و أطبقت  ضلوعها
أغادر الحانة كعاشق منهوك

مرهقة أكتب
 كثيرا ..
لأقول مرحبا
مرحبا
 أنا هنا ايتها الوقحة الماكرة 
أنا هنا ...
أتبوّل على الجدارن
أتقيأ في الطرقات
أنحت طريق العودة إلى منفاي
حيث غرفتي و زحمة من الذكريات
مرحبا
ايتها  القطط النحيلة
ايتها  الكلاب السائبة
اكتب
 كي لا أسير وحدي في غربة الأرض 
كي لا يثقل فوق جسدي لحد  الرحيل
كي لا يكون للعشق بديل  و موت
كي أفرغ ذاكرتي من اللغة
من اللعنة
و من وجوه العابرين
أجمعني  أغنية قديمة
  أنام سعيدة بالحزن  العظيم    
            ************

مازلت  على صهوة الوجع
أُرضع صغار الوحوش من  حلمتيّ،
  أقطف  ثمرات  الهطول
 من وخزات وجنتيّ، 
أجالس  المؤنسات، في كوة الفجر:
ذكريات  المحادثات و السهرات
توقظ اصابع الغابات
فتزحف التفاصيل إلى أوراقي
و تحترق الشجيرات المنكسرة  في صدري
 و يسوّد  بياض قلبي بحفيف الاغصان.
مازالت من صفعة الفراق
 أجمع   رحيقي  من ضباب  اعتذاراتي
و تفر من فؤادي   فراشات بلاستيكية
 بلا لون و لا رفرفة جناحات.
   في الصور أراني هشيم بلور
  تجمعني مواعيد  انتظاراتي
و في الليل    
وجدتني
أرتق صوت الجنائز   في ابتهالاتي،
أكتب رحيلا  بلا  عنوان و لا غلاف
فتشيخ الكلمات من شهقاتي
 و يصدأ  الحلم المترهل من الرصاص
و الفخاخ.
مازالت هنا يا صديقي
أشد  أزري في منتصف السطور،
أتسلق  الماء المهدور،
 اراوغ  ارتطامي و زلاتي،
أصوب   الشمس من فوهة   انكساراتي
أصطنع في الظلمة شعاعا من ظلي
و أزعم  أنني  الناجية من القاع
 آتية بلا أذية
و أنني الشذى من  أعناق القرنفل
و أصيل الأمنيات  في الشرفات
و أنّ الله سيبارك في بدني و في موتي
و ستنمو من شقوقي    موجة خضراء
و تترنح من  خصري عناقيد  العنب
 و ألحان  الخمارات
 فتكبر  شجرة السلوان في بؤبؤ عيني
و أخلد آلهة في الاساطير و الحكايات.

لكنني عبثا أحاول يا صديقي
فَقَد نجوت  في الحقيقة
و تركتني في الرجاء بلا قوارب؛
 تخونني أشرعتي، 
 أنتظر الصباح لتلوح لي 
بقصيد مبلل تلطمه الصخور و المعاناة 
 و خيبة الأوطان و الجغرافيا
و لا شيء بحوزتي سوى
بقايا من الرسائل
  تجرّ  الكفن و عباءة    الصلاة...

 لقد نجوت يا صديقي
من زحمة العناق و تناحر الأكتاف 
و علقت انا في  دياجير الضمأ أرتجي
رشفة البريق
و أحصد حزمة السجائر
و اللعنات.
سلام عليك يوم ابتسمت لي
و يوم بكيتك
من دون أن تراني
سلام عليك يوم اخترتني لأقبل عزاء روحك
من وراء الحاسوب
سلام صديقي...
ثلاثة عشر نصا للشاعرة التونسية نسرين المسعودي Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 21 أغسطس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.