التحليل النقدي لكتابة الشاعر السوري زكريا شيخ أحمد في "مطاردات"


التحليل النقدي لكتابة الشاعر السوري  زكريا شيخ أحمد في "مطاردات"

النص : مطاردات 
1
كنت أطرق الأبواب ظنا أن خلفها ضوءا، لكنني كنت أفتح مزيدا من العتمة.  
2
كنت أهرب من صمتي،
حتى أدركت أن الضجيج لا يعني وجود أحد.  
3
في كل مرة عدتُ إلى الماضي لإصلاحه، 
كنت أعود أكثر انكسارا .
4
ظللت أركض لأهرب من الظل الذي خلفي، حتى سقطت في العتمة التي أمامي.
5
كنت أبحث عن مخرج،
حتى وجدت نفسي بابا لم أفتحه من قبل.  
6
كنت أظنه غائبا،
حتى اكتشفت أن ما غاب حقا هو أنا.  
7
كنت أبحث عن الأمان في الوجوه،حتى اكتشفت أن أقوى الأماكن كانت في فراغي.  
8
ظننت أني أملك الحقيقة، لكنني اكتشفت أنني كنت مجرد سؤال بلا إجابة.  
9
أيقنت أن الطريق الوحيد للخلاص هو الطريق الذي لا أرى نهايته.  
10
كنت أظن أني أعلم أين أذهب، حتى ألقيت نظرة على المسافة بيني و بين نفسي.  
11
سألت قلبي إن كان سيظل ينبض، فأجابني: أنت من جعلني أعيش، فكيف أمتنع عن ذلك؟
12
كلما تمسكت بالزمن، شعرته ينزلق بين أصابعي كالماء في النهر.  
13
كنت أخاف من الفشل، حتى تعلمت أن الفشل نفسه هو الذي يعيد بناء ما تحطّم.  
14
أظن أنني تركت الماضي خلفي، لكنني اكتشفت أنه كان يجري خلفي طوال الوقت.  

التحليل النقدي لكتابة الشاعر السوري  زكريا شيخ أحمد في "مطاردات"

في "مطاردات" يطغى على النص أسلوبٌ شعريٌّ يعتمد على أسلوب التأمل العميق والتساؤلات الوجودية، مع توظيف مميز للرمزية التي تغني النص وتمنحه أبعادًا متعددة. سنحاول تحليل نهج الشاعر في كتابة هذه الومضات الشعرية، مع إشارة إلى التأثيرات الفلسفية والشعرية التي قد تكون ساعدت في تشكيل هذا العمل.

النهج الشعري:

الوجودية والتأمل الفلسفي:

   يبدو أن الشاعر زكريا شيخ أحمد يعتمد في نصه على أفكار فلسفية عميقة تركز على مفاهيم الوجود، البحث عن الذات، والصراع الداخلي. وتظهر هذه الأفكار من خلال تساؤلاته المستمرة في الومضات، مثل:
   - "كنت أظن أني أملك الحقيقة، لكنني اكتشفت أنني كنت مجرد سؤال بلا إجابة."
   - "كنت أبحث عن الأمان في الوجوه… حتى اكتشفت أن أقوى الأماكن كانت في فراغي."

   تتجلى هذه التأملات في الانكسار والتشظي، حيث يتساءل الشاعر عن مفهوم الحقيقة، والأمان، والتجربة الشخصية، مما يشير إلى التأثر بالفلسفات الوجودية التي ترى أن الفرد يجب أن يواجه وحدته في عالم مليء بالتساؤلات بلا إجابات نهائية.

الرمزية والتجريد:

   يركز الشاعر زكريا على الرمزية بشكل واضح، مما يفتح المجال لتفسير الومضات بأكثر من معنى. على سبيل المثال:
   - "كنت أطرق الأبواب ظنًا أن خلفها ضوءًا، لكنني كنت أفتح مزيدًا من العتمة."
   - "كنت أركض لأهرب من الظل الذي خلفي… حتى سقطت في العتمة التي أمامي."
   
   في هذه الومضات، يتم استخدام "الأبواب" و"الظل" كرموز للتحديات النفسية والوجودية التي يواجهها الفرد في رحلة اكتشافه لذاته. يبدو أن الشاعر يطارد أحلامه ويواجه الخيبات التي تأتي مع هذا السعي المستمر، وهو ما يعكس تأثراً بالفكر الرمزي الذي يعبر عن صراع الإنسان مع نفسه.

الذات والتشتت الداخلي:

   يتجلى في هذه الومضات صراع دائم بين الأنا والآخر، بين الظاهر والباطن. الشاعر يكتشف في أكثر من مناسبة أن ما كان يبحث عنه في الخارج هو نفسه موجود داخله:
   - "كنت أظنه غائبا… حتى اكتشفت أن ما غاب حقًا هو أنا."
   - "كنت أبحث عن مخرج… حتى وجدت نفسي بابًا لم أفتحه من قبل."
   
   هذا التشظي الداخلي في الذات يشير إلى تأثيرات الفلسفات النفسية التي تدعو إلى العودة إلى الذات لتكتشف جوهرها، مثل أفكار *كارل يونغ*عن الوعي واللاوعي أو *سارتر*الذي يركز على مفهوم الفرد الذي يتخذ خياراته بناءً على فهمه لوجوده.

الزمن والفشل:

   يتعامل الشاعر زكريا شيخ أحمد مع الزمن والفشل كمفهومين غير خطيين أو حتميين. ففي بعض الومضات، يظهر الزمن كقوة تسلخ الحياة عن الفرد:
   - "كلما تمسكت بالزمن… شعرتُ أنه ينزلق بين أصابعي كالماء في النهر."
   
   يعبّر عن فكرة أن الزمن ليس شيئًا يمكن التحكم فيه، بل هو شيء يتسرب من بين الأصابع، وهو ما يتماشى مع الفلسفات التي ترى الزمن كعامل غير قابل للتسخير أو السيطرة عليه، مثل أفكار *مارسيل بروست*في "في البحث عن الزمن الضائع".

إعادة البناء من خلال الفشل:

   "كنت أخاف من الفشل… حتى تعلمت أن الفشل نفسه هو الذي يعيد بناء ما تحطم."
   
   هذا المقطع يعكس مفهومًا فلسفيًا يرتبط بفكرة *التحول من خلال المعاناة* وهي فكرة يمكن أن تُنسب إلى الفلسفات التي ترى أن الفشل ليس نهاية، بل هو عملية ضرورية للنمو والتحول الشخصي. نجد صدى لهذا في الفلسفات الوجودية التي ترى أن الألم والتحديات هما الطريق نحو الوعي الذاتي.

           التأثر بالفلاسفة والشعراء

سارتر وهايدغر:

   من الواضح أن بعض الومضات تحمل سمات *الفلسفة الوجودية*التي يروج لها *جان بول سارتر*و*مارتن هايدغر*خاصةً في ما يتعلق بالبحث عن الذات في ظل الخيبة والفراغ. مفهوم "الوجود المسبق" الذي يطرحه سارتر يتوازى مع إيمان الشاعر بأن الفرد يجب أن يواجه العدمية الداخلية من أجل تحقيق معنى في حياته.

شعراء الحداثة والرومانسية:

   يمكن ملاحظة بعض التأثيرات من شعراء مثل *ت.س. إليوت*و*رامبو*في أسلوب التعبير الرمزي المكثف. تكمن خصوصية الشعر الحديث في تناول موضوعات مثل الصراع الداخلي، الفقد، والسعي نحو اكتشاف الذات من خلال المعاناة والانعزال.

فرويد ويونغ:

   يظهر في النص تأثير الأفكار النفسية، خاصةً فيما يتعلق بالـ "الظل" (كما ذكرنا في بعض الومضات). هذه الفكرة متأثرة بفكر *كارل يونغ*عن العقل الباطن والعناصر المخفية في النفس البشرية التي تؤثر على سلوك الإنسان.

البنية اللغوية والأسلوبية، التماسك الداخلي

يعتمد الشاعر زكريا شيخ أحمد في *مطاردات* على أسلوب مكثف يدمج بين البساطة الظاهرية والعمق الفلسفي، مما يمنح النص طابعًا تأمليًا قريبًا من الشعر الصوفي والوجودي في آنٍ واحد. يتجلى في النصوص ميل إلى *الجمل القصيرة المكثفة* التي تحمل مفارقات داخلية، مما يخلق نوعًا من التوتر الشعري الذي يعكس قلق الذات وتساؤلاتها المستمرة. كما يستخدم الشاعر تقنية *التكرار المعنوي*، حيث تتكرر ثيمات مثل *البحث، العتمة، الخوف، الفراغ، الزمن* في أكثر من موضع، مما يمنح النصوص انسجامًا داخليًا، ويجعل كل ومضة تكمل الأخرى ضمن بنية مترابطة على الرغم من استقلاليتها. يمكننا مقارنة هذا الأسلوب مع بعض تجارب الشعراء العرب، فمثلًا، نجد تشابهًا مع *أدونيس* في اعتماده على التجريد والرمزية الفلسفية، ومع *محمود درويش* في استبطان الذات من خلال تساؤلات وجودية، ومع *أنسي الحاج* في البنية الومضية الكثيفة التي تترك المعنى معلقًا في فضاء التأويل.  

أما عن الرؤية الوجودية للنصوص، فعلى الرغم من طغيان الحيرة والاغتراب والبحث المضني عن الحقيقة، إلا أن النصوص لا تسقط في العدمية المطلقة، بل تترك بابًا للأمل، ولو كان أملًا غامضًا غير محدد الوجهة. فمثلًا، في ومضة "أيقنت أن الطريق الوحيد للخلاص هو الطريق الذي لا أرى نهايته"نجد أن الشاعر لا ينفي وجود الخلاص، لكنه يربطه بفكرة الاستمرار في البحث، وكأن المعنى في الرحلة ذاتها وليس في الوصول. كذلك، حين يقول "كنت أبحث عن مخرج، حتى وجدت نفسي بابًا لم أفتحه من قبل"نرى تحوّل الذات إلى حلّ ذاتي، وكأن الإدراك العميق للذات هو المفتاح للخروج من دوائر الضياع. بهذا، يمكن اعتبار أن رؤية الشاعر ليست تشاؤمية تمامًا، بل هي مزيج من القلق الوجودي والإيمان بإمكانية اكتشاف المعنى حتى لو كان عبر المسارات المجهولة.

ختاماً 

الشاعر زكريا شيخ أحمد في  "مطاردات" يسلك نهجًا شعريًا متأثرًا بشكل كبير بالفلسفات الوجودية والرمزية، حيث يركز على الأسئلة الكبرى التي يواجهها الفرد في بحثه عن الذات. تتداخل هذه التساؤلات مع التأملات النفسية حول الهوية والوجود، مما يجعل النص يتأرجح بين الشعر الفلسفي والتعبير الرمزي العميق. الشاعر هنا لا يقدم حلولًا بقدر ما يفتح آفاقًا للتفكير ويحث القارئ على البحث المستمر عن المعنى في عالم مليء بالأسئلة المتشابكة.

 

التحليل النقدي لكتابة الشاعر السوري زكريا شيخ أحمد في "مطاردات" Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 12 أبريل Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.