موْتٌ في ليلةٍ باردة بقلم محمد خلاد المغرب


أقود سيارة إسعاف
هذه مِهْنَتي
صرتُ صديقاً للموتى
أعرف عاداتِهم ولغتَهم الخفِية
مَتىَ يتركُون بسْمةً على شِفاهِهم
ومتى يُغادرون الحياةَ غاضبين
وما إذا كانتْ لهُم أسرارُ عِشق
وأحلامٌ مجهضة
لم أتأخَّرْ بعد أن رنّ الهاتف
ارتديتُ معطفي الشتوي
وانطلقتُ دون أن أطلق صفارة الإنذار
فالشوارع خاليةٌ يَغْمرها اللَّيل
كانَ أمامي مُسْجى على السرير
وجهه شاحب تعلوه بقع أرجوانية
وجسدُه في حالة تحَلُّل
تنبعِث مِنه رائحةٌ كريهة
مات وحيداً في ليلة باردة
شعرتُ وكأنه يشْخَصُ إليَّ
بعينين مفتوحتيْن
قلتُ له : لا تغضبْ
سأنظف كل شيء
سأرتب أغراضك
أعرف أنك لَمْ تبق حيًّا
لكن غرفةَ نومك
مازالتْ دافئةً بأنفاسك
وساعةَ الحائط الأثرية
تدقُّ في خفوت مثل قلْبٍ عَلِيل
هناكَ رسائلُ وصلتْ إليْك
سأل عنك ساعِي البريد
لم يكن يعرفْ أنَّكَ مُتَّ
في وحدة قاسية منذ ثلاثة أيام
دون أن يحضر بِجوارِك أحد
كان يتسَلَّى بأغنية رومانسيةحزينة
ومضى دون أن أُخبره
أن نجْمتَك انطفأتْ إلى الأبد
في الزاوية قرب النافذة
طاولة صغيرة عليها أَصيصُ سِيرامِيك
تدلَّتْ على حواشِيه زهورٌ ذابلة
ربما انتظرتْكَ طويلا
لِتسقِيَها كعادتك
لم تكن تعرِفْ كذلك
أنها لن تنْعَم َبعد اليوم
بلمْسَتك الصباحية
جارتُك العجوز التي تعيش
بدورها وحيدة
هي من أخبرت الشرطة
باختفائِك المُرِيب
كانت تَنْشِجُ بصَوتٍ مخْنوق
ربَّما خَطَر بِبَالِها أنها
ستَلْقَى نفسَ المصير
زوجُها تُوفِّي أكثر من عشرين سنة
وابنُها الَّذي أحبَّت في المهجَرِ
يزورُها لِمَاماً
ولنْ يكونَ لها جارٌ مثلك
يُخبِر الشرطةَ عن موْتها
كانتْ واقفةً عند الباب
تنظر إليَّ كَمَنْ يستغيث
رأيتُ خلفها على الكَنَبة
دُميةً عارية مثل جُثّة
وقطةً متكوِّمة حول نفسها
وفِي البِرْوَازِ المُثْبت في البَهْو
صورةُ عرُوسين منتشِيَيْن
في كاملِ البهَاء
خَمّنْتُ أنها صورةُ حفْلِ زفافها
واصلتْ نشِيجَها الحَارِق
أغمضتُ عيني
وكأنني أبحثُ في داخلي
عن سِرٍّ ما
لقدْ نسِيتُ لماذا جِئتُ هنا
فهذه العجوزُ التي تغُصُّ بالبكاء
لم تمتْ بَعْد
موْتٌ في ليلةٍ باردة بقلم محمد خلاد المغرب Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 24 أبريل Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.