لا شيءَ يُشبِهُكِ .. أنتِ البطلةُ والأُخْرَياتُ ضيفاتٌ على الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين


يقولُ الوردُ للزنبقِ :
لا شيءَ يُشْبِهُها , كانتْ امرأةً من طرازٍ آخرَ , درويشيَّةً حدَّ النسكِ حينَ ينتصفُ ليلُ العاشقينَ , رديفةَ زئبقيَّةِ اللاعنوانِ كلما سافرَ قلبُها كفراشاتِ الحقولِ , كأنها مِنْ زمنِ حكاياتِ الشرقِ العتيقةِ , أو رُبما من عصرِ الأساطيرِ الخرافيَّةِ التي تناقَلَها البحارةُ الفينيقُ في أسفارِهم , كانتْ تمتلكُ مفاتيحَ مدائنِ المطرِ منذُ قمطتْها القابلةُ العجوزُ بسحرِ الخرافاتِ ، وعندما يُجلجِلُ الرعدُ على نحاسِ القِبابِ كانتْ تجرُّ وراءَها الغيومَ غيمةً وغيمةً كعرباتِ قطارِ الضوءِ أيَّانَ وأنَّى تسيرُ , وكلما تُومِئُ مبتسمةً من علياءِ الشجرِ المُذَّهبِ وتضربُ بعصاها السحريَّةِ ينشقُ البحرُ جدارينِ شاهقينِ من ماءٍ شفاف صافٍ ، كي تعبرَ حافيةً معْ رَمْحِ الريحِ إلى سدرةِ الكنايةِ , فتَأتمرُ لتواترِ خطواتِها الرزينةِ دروبُ القصيدةِ .
يروي العابرونَ على صهوةِ الريحِ :
كانتْ امرأةً مذبوحةً من الوريدِ إلى الوريدِ , هَيَّأَتْ مسرى الروحِ لكلِّ هزائِمِها , عمرُ حزنِها أكبرُ من عمرِ الأرضِ والبحورِ وتقويمُ دمعِها أقدمُ منْ تقويمِ الدهورِ والعصورِ , إِحترفتْ الحزنَ والضياعَ قبلَ هوميرَ , وأدمنَتْ مآقيها الصابرةُ حفناتِ ملحِ الدموعِ , لم يكسرْها أيُّ شيءٍ , لا الخطوبُ ولا النوازلُ ولا حتى الغيمُ العبوسُ المقيمُ في شحوبِ أيامِها الغارباتِ خلفَ الأفقِ المغمورِ بالوحلِ والعوسجِ والطينِ , غادَرَتْ الميادينَ تحملُ انكساراتِها في سروجِ الصهيلِ مُتَزَنِّرةً بنبلِ فرسانِ العصورِ الوُسطى , دونَ أن تَلْتَفِتَ ولَوْ مرةً واحدة ً إلى الوراءِ , ِ إنْسَحبَتْ بهدوءٍ دونَ أن تعطيَ الفرصةَ للشامتينَ وللمُشْفِقينَ ، فأضاءَتْ العتباتُ الحانياتُ الشموعَ خلفَ أثرِها في فضاءِ السنونواتِ ..
يقصُّ الحكواتيُ على مَنْ أنْصَتَ لهُ من رُوادِ في المقهى البحريِّ :
كم غَصَّتْ بالبكاءِ ولم تبكِ ! كم امتلأتْ بالعتابِ ولم تَعْتَبْ ! كَمْ نَضَحَتْ بأجيجِ الشكوى , صمتَتْ ولمْ تشتَكِ ! لَمْ تناقشْ أسبابَ رحيلِها لا سراً ولا علناً , لم تُحاسبْ أحداً , كانتْ تُؤمنُ في قرارةِ أدناها أن الحظَ عدوُ المُعَثَّرينَ , ويانصيبُ المَبْخوتينَ ..
لم تُسائِلْ القدرَ يوماً : لِمَ أنا دونَ غيري ؟! لِمَ لا تَرُشُني الأزقةُ بأرزِ الفرحِ حتى في أضيَّقِ أحلامِي ؟! ..
تهمسُ الصفصافةُ المُطَوَّقَةُ بأَفيائِها للغديرِ :
كانتْ أكبرَ من النسيانِ حتى عندما يرتديها الخريفُ ذبولاً على وجومِ الحقولِ , كانَتْ رموشُ أحلامِها الذابلةُ أطولَ من جدائلِ أقصوصةٍ , وتقاسيمُها الأولى الموءودةُ في ترابِ جاهليتِها ضائعةً في ضبابٍ لا ينقشعُ , وبقاياها المُنَكَّسَةُ على أوجاعِها كالراياتِ تتناثرُ في مَهَبِّ ريحٍ لا تَمُّلُ الثرثرةَ , لمْ تنحنِ للعواصفِ حينَ خاضتْ الغمْرَ في مستنقعِ أَوهامِها من أَقاصيهِ إلى أَقاصيهِ ومنْ شرقِهِ إلى غربِهِ , سائرةً على رؤوسِ أحداسِها إلى غياهبِ المُنتظرِ , وكأنَ المأساةَ لم ترتوِ منها ومِنْ نزفِ جراحاتِها عندما رمتْها وحيدةً في الجُبِّ وادَّعَتْ كالذئابِ النهمةِ القداسةَ ..
لا شيءَ يُشْبِهُكِ
لا حبقَ الأصباحِ الطائعةِ .. ولا زنبقَ الأمساءِ الرائعةِ
لا أنا الآنَ .. ولا أنا الذي كُنْتُهُ قبلَ ثلاثينَ حصاداً وبيدراً ..
لا انعكاسَ وجهِكِ في المرآةِ
ولا حتّى ظلّكِ القديمَ المكسورَ كمئذنةٍ
كلما زحفَ خلفَكِ طاوياً مواجعَهُ في الزقاقِ الطويلِ ..
لا شيءَ يُشبهُكِ
ولا شيءَ أعرفُهُ يُشبهُكِ
لا العصافيرَ حينَ تسقسقُ في طابورِ الفجرِ
على نوافذِ زهرِ اللوزِ الفوَّاحِ ...
ولا النحلاتِ العائدةَ قبلَ الغروبِ إلى القفير
قبلما تغريها قطرةُ ندى سالتْ على خدِّ الزهرِ ..
لا نادلةَ المقهى الخشبيِّ على الشاطئِ
التي تقدمُ النبيذَ والقهوةَ السمراءَ ..
و لا حتّى الحجارةَ العتيقةَ في الحيِّ القديمِ
الممتدِّ على ضفافِ النهرِ المِضْيَّافِ للبجعِ العاشقِ ..
لا شيء يُشبهكِ
وحتى إن وُجِدَ
سينصهرُ في أحداقِ غامضِكِ فضةً لبهيمِ ليلكِ .. ليصيرَ أنتِ ..
لا شيءَ يُشبِهكِ
يا امرأةً .. فتحتْ القديمَ فِيَّ أسفاراً
وقرأتني أَحرفاً بدائيَّةً حتى السطرِ الأخيرِ ..
يا امرأةً .. ضاعَ أشباهُها الأربعونَ
حينَ تَبَرَجْنَّ أمام مرايا السرابِ ..
يا امرأةً تَوَضَّأَتْ بأنداءِ الغيابِ
قربَ ساقيةٍ تغنجتْ غديراً في مواسمِ المطرِ والسحابِ ..
يا امرأةً مسبوكةً من روعةِ الأشياءِ
تبعثرُنِي تبذُرُني .. وتُلَملِمُنِي
تُربكُني تُزلزلُني .. وتداعبُني
تُشعلُني تُضِيئُني .. وتطفِئُني
تكتُبُني ترتلني .. وتُخرسُنِي
ترسُمُني بألوانِ قوسِ قزحٍ
وريشِ العصافيرِ على الحيطانِ ..
تزرعُني سفارجَ على تلالِ الريحِ
وزنابقَ بريةً في أصصِ الجيرانِ ..
تُغيّرُ تقاطيعَ وجهي حين تبتسمُ .. فأصبُو وأهفُو
تمدِّدُ إقامتي في منافي البعيدِ حينَ تعبِسُ .. فأكُبو وأخبُو
هذه المرأةُ
تُؤَكِّدُني .. حينَ أبهتُ
تُجدِّدُني .. حينَ أعتقُ
تَرْتِقُني .. حينَ أَتَمَزَّقً
تُقبّلني على خديَّ .. فأرنُو إلى الأفقِ الخجولِ
كي أرى دروبَ السماءِ تمشي مني إليِّ ..
تُطلقُ جناحيها للرّيحِ
فتحلقُ بملائكتِها نوراً
في كرياتِ دمي وأوردتي ..
امرأةٌ لا تعادُ من أسرةِ الوردِ والأُقحوانِ
تقرعُ أجراسَ العيدِ في صدري
فأَكْتَمِلُ فوقَ راحتيها بدراً على ألفِ ليلةٍ وليلةٍ ....
لا شيءَ يُشبِهُكِ .. أنتِ البطلةُ والأُخْرَياتُ ضيفاتٌ على الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 28 مايو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.