وعلى ظلالِكِ أمي تتدحرجُ في العيدِ كلُّ الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين



وكلما ناديتُكِ أُمي في فجرِ تكبيرةٍ وعيدٍ من مئذناتِ روحي السامقاتِ كالنخيلِ طولاً كي أقولَ لكِ : " كلُ عامٍ وأنتِ العيدُ يا ملائكيةَ الملامحِ وأنتِ نورُهُ وأجملُّ هداياهُ " , بُحَّ صوتُ القصيدِ . وصمتَ هديلُ الحمامِ الدمشقيِّ على نوافذَ من الحجرِ القديمِ تقوستْ تحت ليلكةٍ على راحتيكِ الوارفتينِ بينَ حقلِ سنابلَ وبواباتِ قصيدةٍ , أسترقُ السمعَ وأُُنصتُ للصدى القزحِيِّ الآتي بين السحابِ والمطرِ من أعماقِ حناجر البعيدِ حين يدورُ في دوائرَ زرقاءَ بلا نهاياتٍ فلا أسمعُ شيئاً من هناكَ سوى نداءِ زيزِ الليلِ وحفيفِ ورقِ الشجرِ العاري يترددُ في الحقولِ المهجورةِ منذُ الحصادِ , فكيف لي أن أُحاورَ تلكَ العنادلَ والسوسناتِ وغاباتِ الخيزرانِ التي تسكنُ عينيكِ قبلَ أنْ يأتيَ أيلولُ ؟ كيف لي أن أُعيدَ المراكبَ وأسرابَ الحساسينِ قبلَ الرحيلِ عن أحداقِكِ ؟ كيفَ أُعيدُ وقعَ خُطاكِ ألمتعجلةِ في الدروبِ الترابيةِ وقد باغتَها الوهنُ ؟ وكيف لي أنْ أَجُرَّ القمرَ الخجولَ إلى أمسائك الدافئة تحتَ الداليةِ وقطوفِها الدانيةِ قبلَ أنْ يبهتَ لونُهُ ويحملُ حقائبَ السفرِ ويأفلُ ؟ كيفَ لي أنْ أزرعَ التهليلَاتِ والبسملاتِ والدعاءَ على شفتيكِ اليابستينِ وقد تأخرَ الشتاءُ ولم يأتِ مع الحكواتي العجوزِ إلى قصصِ الأطفالِ ؟! ..
وحدُهُ الصمتُ الذي اخترتِهِ يا قُرَّةَ العينِ منذُ سنينَ يشطرُني كآبتينِ ويشتتُني بينَ حيرةٍ وحيرةٍ كلما نفذَ كالسِهامِ من بينَ الكلماتِ القليلةِ المثقوبةِ , وحدُهُ الصمتُ وما أقساهُ على قلوبِ المنتظرينَ خلف الأبوابِ الموصدةِ على غبارِ الماضي القصيِّ والعصيِّ عن النسيانِ يُتقنُ لغةَ الحنينِ , ويحاورُ المدامعَ والجدرانَ الشاحبةَ بنبرةِ صوفيٍ تجلّى له النورُ بين التواشيحِ في حفلةِ زارٍ فتسامتْ روحُهُ بينَ البخورِ إلى السماءِ السابعةِ , وحدُهُ يتماهى في عروقِ رخامِ الغيابِ ويندسُ بينَ الشقوقِ الغائرةِ وبينَ التجاعيدِ , يتشبثُ بتلابيبِ طينِ البيوتِ العتيقةِ على تلةِ الرياجينِ ويعربشُ على خشبِ بوابةٍ قديمةٍ منسيةٍ , يسرقُ من حراجِ الرندِ والعنابِ البريِّ زقزقةَ أسرابِ الشرقرقِ وتكتكةَ رفوفِ الحِجالِ , ويخربشُ على لوحاتِ أعمارِِنا الآخذةِ بالنقصانِ يوماً بعدَ يومٍ آخرَ الرتوشِ ..
وكلما حملَنا العمرُ معهُ نحوَ عتباتِ اللاعودةِ أطيلُ النظرَ إلى عينيكِ الغاربتينِ كالشمسِ المُتعبةِ طمعاً بثوانٍ من غموضِ الدفءِ ونزقِ الشرودِ , فإذ بي أراكِ بقلبي وقد عُميتْ عينايَ تلبسينَ في معصميكِ أساورَ من نورٍ فيُرَّدُ بصري كسيراً كليلاً !
وما بينَ الدمعةِ والدمعةِ تهمي في مآقيكِ وردتينِ جوريتينِ لا تذبلانِ أبداً فأهمي معكِ سيلَ حسرةٍ , أخافُ عقاربَ الساعاتِ ونهمَ الزمنِ وأَتوجسُ في قرارةِ ذاتي مما هوَ آتٍ , كم أخاف ذلك اليوم الذي سيأتي لا محالة حين يطلُّ العيدُ بثوبِهِ البالي القشيبِ وأنتِ لستِ معي ! كم أخافُ الذهابَ للنومِ حينها بلا دعائِكِ بلا نظراتِكِ الحنونةِ الشاردةِ بين بحرين! كم أخافُ إلاكِ أن أحملَ أنايَ العجوزَ على كاهلي واتوكأَ على منسأتي , فأتعثرُ بظلالِ الماضي حين يمرُّ طيفٌ أحسبُهُ أنتِ , وأهوي بلا حكايةٍ بلا تهليلةٍ ...
على تجاعيدِ وجهِِكِ أُمِي
تَشَكَّلَتْ قشرةُ الحياةِ
مُرُوجَاً مدَّ النظرِ من الشقيقِ
وودياناً تحملُ زوارقَ ورقٍ إلى ضفةِ البعيدِ ....
وسُهوباً تملأُ راحتيْها بالسنابلِ الصفراءِ
تغرفُ الحكاياتِ حفناتٍ من النبعِ الشريدِ ....
وسماءً تطلُّ على النوارجِ والمَذارِي والبيادرِ
وعلى الجاداتِ السِماحِ والزقاقِ العتيقِ
تلألأتْ أنجماً في فجرِ مئذنةٍ وتسابيحِ عيدٍ ...
فأيّةُ أهدابٍ تلك التي تخبئُ الطفلَ الذي كُنْا
بعمرِ الزهرِِ المُنَدَّى
وصارَ غُنَّةَ اللا شيءِ المُنْطَفِئِ
ينوسُ في خِضَمِ نقصانِهِ ظلالَ الصمتِ البليدِ ...
وأيةُ روحٍ تلك التي سكنتْ هذا الجسدَ الواهنَ سنينَ
تهاجرُ عاريةً لاهثةً إلا من نزفِ جروحِها
في غلسِ الذكرى إلى الوهمِ السعيدِ ؟
وأيةُ دمعةٍ أحنُّ من نوحِ الحمامِ
تلك التي فَرَّتْ من مآقيكِ
مع تواترِ أنفاسِ الدروبِ انتظاراً
لرسائلَ تاهتْ حَوْلاً في صناديقِ البريدِ ...
وأيَّةُ سيولٍ من طيبةٍ قد جَرَّتْ في دمكِ
ليلاً ونهاراً .. صيفاً وشتاءً
في كلِّ شريانٍ ووريدٍ ؟؟
وأيةُ بوصلةٍ لا تشيرُ أمي
إلى عينيكِ المهاجرتينِ في مواسمِ الزهورِ
تبعثني إلى مِهادِ حزنٍ وئيدٍ وئيدٍ ...
وأنتِ أُمي
كلُّ تجلياتِ البدايةِ .. وجلُّ وجعِ النهايةِ
مشاعلُ الهدايةِ .. وبواكيرُ الدِّرَايةِ
قماطُ المَطَالِعِ .. وأمدُ الأبيدِ
وأنتِ
صَمْتُ الحُبَّارِ .. وصبرُ الصبَّارِ
كلامُ القصائدِ .. وايماءةُ النثرِ السريدِ ...
وعندما أقفرُ في أوجِي
ادفنيني في ترابِ يديكِ
كي أُُزهرَ بعدَ اليباسِ من جديدٍ ...
وانثريني رماداً بعدَ حرائقِ العمرِ
على الطلولِ والزوايا والتكايا
فما كنتُ يوماً ما أردتُ
ولن أكونَ طولَ العمرِ ما أريدُ ...
وعلى ظلالِكِ أمي تتدحرجُ في العيدِ كلُّ الحكايةِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 06 يونيو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.