همس بضوء أقل بقلم مليكة فهيم المغرب


حقا لا أحد سينقذني، وهذا هو الجزء الشاق والمخيف. حياة لا يطالها التهديد، كنت أحياها، لا أنتظر أحدا، أتكئ على خاصرة الوقت، والكون طفل صغير.
كل نهار يستعيد صباحي وعيه، ويستعيد وجهي ملامحه الأزلية، أمكث في موجة العطر أغازل عناقا .. ما غادر شموسي، والأشجار تعيد صياغة وقفتها وتضحك وأضحك معها ..
وأنا الآن أنظر إلى الهاوية بعينين جاحظتين، أرى المعنى هناك، يجر كرسيه، ليرى نفسه عبر المسافة، وأنا ألتقيك في المدارات المتوترة والمريبة، حيث يكون اصطدامي بك قاهرا ومدويا، ظلان .. فقط ظلان يرتعشان، يفنيان على حافة الممكن والمستحيل.
لوح لي بيديك، وقل لي أيها الظمأ المنعش .. تلك النجمة ما بالها مهما غمرتها بالخفوت تنتفض، ومهما أغرقت جثتها في النهر، لا تنمحي قدرتها على اللمعان؟
"آه آه لو تسمعني .. أشكو الجوى يا حبيبي" والموت موجود يا جورج باطاي، حتى في الأشكال المتناهية في الرقة، مثل الحب..
من قال إن المغارات توجد خارج أكواخنا العميقة، فتَحَمَّل صقيع العزلة، والعَقِ العسل من شفة الشفرة الحادة، حتى تصطدم بوجه كافكا البارد، وهو يهمس من ثقب الهشاشة: " أخاف الأشياء التي تلامس قلبي يا ميلينا، لهذا أهرب منها دائما وأهرب منك"
وأنا أقرا ما يرتله الندى من آيات، وأشتهي هذا "اللاشيء" الذي يفزع الوجود، حيث الألم والمتعة، " حين تخيلت شفتي تقبِّل فراغ يدك السرمدي، يدك المعنى الذي لا يصل إليه أحد، المعنى الأكثر عمقا من مخاوف المرء". هل كان علي أن أوزع محياي على كل الأمكنة الضيقة، ليتسع المحيط تحت جلدي، قبل أن يبتلعني جنوني وضياعي المؤجل، بَدءا من ضفة ضلوعي المكسورة إلى آخر نقطة وهم، لكي نبقى على قيد الحب؟
منهكة أنا؛ وأنا أقدح النار في الكلمات، كيف أجعل اللوز يُزهر في كل الفصول؟ كيف أبتكر خطوطا ملتوية تقودني إليك؟ وأنت تعلم بأني لا أحب الخطوط المستقيمة، أحب الفوضى، أحب رحيقها الليلكي وعينيها العسليتين، فثمة رقة ما، وأحب الشمس وهي تتدلى، واللون الأصفر يخيط جرحه على أرض الوجع، ليبطل تعاويذ الساحرة .. لأراقصك على الساعة الثانية عشر ليلا، قبل أن يضيع حذائي، وتعزف أصابعي رجفة السديم.
" لقد شاخ العالم" يا فان غوغ، وحده الصمت يرتعش تحت المسام، يهدهد نغما، يحفر خندقا في الروح، حيث تلتئم جراح الموتى والحمقى والمقهورين .. هو اللون البنفسجي، يوقظ الفجر القديم، واللوحة ورق أبيض .. فكيف أملأ هذا المدى، والريح ترسم على محياي عويل الظلال؟
سأرسم الحزن الأشعث وهو يتسلق الشجرة، يسرق الغيم، ثم يتدحرج منتشيا، كأن العالم يفقس بيضته، وكأن الحياة على مرمى حجر أو قاب قوسين، وكأنه يقطف أبدية الهنيهات.
وأنا أستنشق غبار الصمت وأصابعي تعزف رجفة الشك، رأيت العائدين وهم يعودون بخطوات مهترئة، وشهيق يشق صدورهم. كل شفق يحدقون في الأفق البعيد، لا أين لهم ولا هم يحزنون، يعانقون ثقوب نذوبهم، يلوحون لأغنية الغياب، وأنين التيه يضيء خصلات شعرهم .. هل كان علي أن أعانق عماي، وأرسم كوة سرية في ثقب المدى، وأتعقبهم واحدا واحدا ..؟
وأنا العداءة المحترفة، أتقن توازن نبضي والخطوات، أتقنه جيدا .. لكن يخبرني حدسي الآن، أن ثمة أشياء لا أتقنها:
كأن ألون شقوق النسيان ..
كأن أسجل في رصيدي البنكي، كم أهدرت من خطوات لأصل إليك ..
كأن أغربل الماء وأشرب كل هذا الصمت ..
كأن أصوب رشاشا بيدين من ثلج..
كأن أنثر حنيني إليك بالسرعة القصوى على سلم ريشتر.
وأنا الآن وحيدة تنهشني الكوابيس، وجمجمتي فارغة، فارغة تماما .. تدفق اللغة الباهتة بين أصابعي، وعزلتي أينما ولت وجهها، فثمة موج أملس، يرسم خطوي المثقل بالشقوق، وعواء يَرثي جثتي، يرتق أزرار قميصي، برهافة كريح .. وأنا المشتاقة إلى نايها الغض ونوتاتها الممزقة.
ذاهلة أمشي..
يقفز نورس من صدري ..
يجهش الماء بالبكاء.
همس بضوء أقل بقلم مليكة فهيم المغرب Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 02 أغسطس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.