موتٌ واحدٌ لا يكفي .....بقلم ميرفت أبو حمزة / لبنان




جَرَحَ الوقتُ يومَهُ الغضَّ في وداعهِ،
كان المطرُ مالحاً هذا الشتاءَ
عارياً سِوىَ خيطِ حزنٍ على زنده.
هكذا تذوبُ التفاصيلُ مثل بزَّاقةٍ على غصنٍ كان أخضرَ..
هكذا يولدُ الفقدُ على أرضٍ تتصحرُ ..

جلستُ أبحثُ عنكَ بين دفاتري:
هل ما زلتَ هنا..أم محاكَ الملحُ..؟
رأيتُ ريفَكَ يعبرُ رؤاي ..
يرتسمُ في مداري المحروقِ
باسماً .. أنيقاً ..
أسقطتُ شهراً من هذا العامِ..
رميتُهُ جانباً :

أتيتَ
أم طيفُكَ اجتازَ البابَ ؟
سألتُ طريقاً شقَّهُ الضوءُ..
سألتُ الأرضَ هل شعرَتْ بخطاكَ؟
لم يفتحِ البابُ..فكيف دخلَ الضوءُ ؟ !
كيف قرأَتِ الجدرانُ ملامحَكَ ؟
وكيفَ استأثرَتْ لنفسها بكلِّ هذه الظلالِ المُشِعَّةِ ؟
غبتُ ولم أغِبْ لكنّي لم أكنْ هنا ..
أو ربما تبعثرتُ بحادثةِ انبهارٍ فلم أراني ..
جسدي تشهّق ملحَ المسافةِ ..
وأنا كَرَذَاذِ جُمانٍ ارتقى به الضياءُ.

غريبُ هذا اليومُ..
رفعَ الماءَ من سُرَّةِ البحرِ
دون أن يغيِّرَ فيه شيئاً ..
رفعهُ عالياً على كتفِ السماءِ
وراحَ يرشُه فوقَ جراحِ الأرض..
لا صوتَ .. لا تذمُّرَ

أترى؟
أُسكُبْ قهوتَكَ في عينِ الصباحِ
أُسكُبْها في شمسِهِ النائمةِ خلفَ المزن البعد ..
سيّانَ بين اللونِ واللونِ..
لا ضوءَ
إلا حين نرتشفُ الضياء معاً..

نحن لم نكنْ هناك .. ولا كنا هنا
لكننا ما زلنا نُبْرِقُ ونهطلُ وتأخذنا الحكايةُ إليها ..
لا نهدأُ .. لا نتحركُ .. لا نتنفسُ ..
لكن الريحَ تعوي في رئتينا..
موتُنا واحدٌ ..
وموتٌ واحدٌ لا يكفي..
دعكَ من جسدِكَ وجسدي
تعالَ نعبرهُما معاً ..

شقَّتِ السماءُ حجابَها وحملتْ أقدامَنا ..
مشتْ بخطانا ..
لم تسألْنا .. ولم نعترضْ
لا نريدُ .. لكننا أردنا ..
أن نعبُرَ أسماءَ المطرِ والريح ..
نعبُرَ أسماءَ الحبِّ ..
نعبُرَ الأنسابَ والمسمّياتِ ..
ولا نتعرفُ بِسوانا ..
ونتوهُ عُراة في المدى

وطنُ .. منفىً .. حدودٌ .. بحرٌ
غرقٌ .. غرقٌ .. يغرقُنا ولا يغرقُ
يدخلُ مسامَّنا ..
يفيضُ من عيونِنا ..
يحتلُّنا .. ينكّلُ في أعماقِنا
يُخرِجُ ما بداخلِنا..
ويُدخِلُ فينا كلَّ جُثثِ العالَمِ
فتتزاحمُ فينا القبورُ ..!
أن نُدفن داخلَنا ..
فهذا حقُّنا الشرعيُّ ..
أين أخرجونا؟!

هذا الخواءُ ترك كلَّ شيءٍ على حاله
وأفرغنا منا  ..
لا نستطيع أن نقول كنّا ، ولا كان .. فما زلنا !
لكنَّ اللغةَ جعلتْ مِنّا ماضياً  ..
جعلَتْ منا حاضراً مستمراً
 لا فتنةٌ .. لا افتتانٌ ولا فُتاتُ كلماتٍ ..
يتذوقُها المعنى
ويقرأُ حلوَها أو مُرَّها..

هل ستَسْلَمُ من كلِّ هذا الغرقِ المملحِ ؟
هل سيحتضِنك الهواءُ فلا تتشردُ مثلي ..
هل سيتفتحُ ربيعُك بعدي
زهرٌ .. نارٌ .. مطرٌ .. براحٌ .. عناقٌ .. توحُّدٌ ..
هل تموتُ الكلماتُ أن ماتَ الورقُ..؟

ربما ستؤوبُ الحروفُ إلى بداياتِ الكلامِ ..
لا حبَّ يرغِمُ اللغةَ على الكتابةِ
غيرَ ما يعصفُ في بردِ القلوب والأناملِ
خُيِّلَ إلينا أننا إن حَمَلنا القلمَ سنكتبُ ..

لماذا تقرأُ..؟
لماذا تكتبُ..؟
لمن..؟!
دعك من كلِّ هذا ..
أُرْقُصْ مع الماءِ ..
مع الملحِ والترابِ ..
مهما اشتدَّ احتضارُكَ يا حبُّ
ومهما تجعَّدَ جلدُ الحلمِ ..
حتى ولو دفنوكَ حيّاً  ..

بِتُّ أكرهُ الصمتَ .. أكره الكلامَ
أكرهُ الكتابةَ وأكره تمزيق الورق ..
مجموعةُ متناقضاتٍ غريبةٍ ..
أتقلصُ فيها وأتمددُ ..
لا أريدُ كلَّ هذا ..
فقط أريدُ أن أنظرَ طويلاً إلى البابِ ..
هل ما زال مغلقاً..
كيف عبرتَ إذا ..؟!

لن أنظرَ إلا من خلالِ هذا البابِ مطلقاً ..
أبداً لن أسمحَ لربيعٍ غيرِ ما خلفه ..
لا مطرَ إلا ذاك المطرُ ولو كان مالحاً .. لا مطر
لن أكونَ إلا حروفاً .. كلماتٍ ..
وأن أُجفِّفَ جسدي كشقوقِ هذه الأَرْضِ ..
أجمعُ ملحَها ..أحرثُها ..
أذري بذارَ الأبجديةِ وأنتظر

إمنحْني أطيافَكَ بعد
كن مصيراً .. قدراً .. موتاً .. كن مساراً.
ما زلتُ في غرفتي ..
البابُ خلفَهُ بابٌ ..
النوافذُ مغلقةٌ ..
المطرُ ينقرُ زجاجَها والستائرُ دون وثاقٍ..

أتذّكرُ كلَّ شَيْءٍ  .. أنسى بعضَ الأشياءِ !
ها أنا كما كنتُ .. كأنني عدتُ
أتناولُ قلمي وما بقي من هشيمِ الورقِ ..
أعصرُ محبرتي من الليلِ
يتقطرُ على الطاولةِ ..
ينداحُ قصائدَ .. مواويلَ ..
أتُراكَ صرتَ الليلَ ..؟
هل نامتْ شمسُكَ خلفَ البابِ؟
الأحلامُ تعودُ..
تصبحُ هواجسَ .. تستيقظُ .. تقفُ .. تجرِّبُ خَطْوَها .. تركضُ .. تحملني إليك ..
في سماءٍ حرةٍ من كلِّ قيدٍ ..
دعها عندي .. سأعتني بها كثيراً ..
سأرفعُ شهقاتِ كلِّ الحالمينَ والمتألمينَ .. والمتأملينَ فيها

وجهُكَ أمامَ وجهي ..
كفُّكَ بكفِّي ..
خطوتُكَ مع خطوتي..
نشقُّ ذاك الطريقَ الضوئيَّ
شمسٌ وقمرٌ في عراءِ الليلِ
كلانا نعرفُنا .. نتعرفُ على سماءٍ جديدةٍ ..
رحلةٌ فوق موجِ الحِبْرِ ..
على قاربٍ من ورقٍ
في غرفةٍ بابُها لا يفتحُ
على أرضٍ تتأرجحُ تحتَنا
أرقصي يا أرضاً حملتْنا معاً .. يليقُ بكِ الرقصُ بعدَ كلِّ هذا الموتِ
بعد رمادِ كلِّ هذه القصائدِ ..
اصرخي .. تململي ..
غالباً ما أشعرُ بأنينِكِ ..
أتفقدُ مقبضَ البابِ..
أنضو الستائرَ وأوثقُها ..
أتأكدُ من وجودي هنا..
وأقول لنفسي :
أما زال مغلقاً ذاك اللعينُ..
أتحوَّلُ إلى طيفٍ .. أعبره ..
الليلُ يضيءُ .. الجرحُ يتذوقُ الملحَ ويبتسمُ ..
تتدلى ملامحُكَ من السماءِ .. تمتشِقُ ملامحي ..
نُضاءُ معاً .. يقرأنا الليلُ ..
تقرأُنا غيمةٌ خجولةٌ .. ننسكب معا ..
نسكنُ القصيدةَ الأخيرةَ ..
نؤثثُ فيها فواصلاً ونقاط ..
نتجاوزُ المعنى ..
ونرتِّبُ معاً ما قد يتمخضُ منا بعدَ كلِّ هذا النزفِ.

من ديواني * كنتُ أرى *
ميرڤت أبوحمزة

موتٌ واحدٌ لا يكفي .....بقلم ميرفت أبو حمزة / لبنان Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 22 مارس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.