ثرثرة حذاء عاطل عن المشي قصة قصيرة بقلم هيثم الأمين / تونس
أنا أكرهكم جميعا يا رفاق. قد تبدو أسباب كرهي لكم مجّانيّة أو لا ترتقي لتكون أسبابا مقنعة و لكنّي أكرهكم جميعا.
إنّ رائحتكم كريهة جدّا و هذا يشعرني بالغثيان و هذه الغرفة ضيّقة جدّا و مظلمة و أنا مصاب بفوبيا الأماكن المظلمة و أنتم لا تتردّدون في دهسي و السّقوط عليّ كما أنّكم لا تتوقّفون عن الثرثرة فتسبّبون لي الصّداع.
نعم، أنا لم أمتلك الجرأة، يوما، لأبصق هذه الحقيقة على مسامعكم و لكن، ربّما، ستقرؤون هذا بعد رحيلي و ستكتشفون ما أكتمه في صدري.
هناك، في المكان البعيد حيث كنت أعيش، كان الضوء و العطر لا يغادران غرفتنا الزجاجيّة طول اليوم. كنتُ أتطلّع إلى الرّصيف الأنيق و هو يستلقي دون حرج بجانب الشّارع، من وراء الزّجاج، و أحلم بالمشي طويلا و بأن أجرّب تلك الحركات الغريبة في الساحة العامة، التي يبدو لي جزء منها، أين يقف رجل مسن يعزف الكمان للعابرين.
أنا لم أكن أعرف، حينها،أنّ تلك الحركات تسمى رقصا. في البداية، كنت أظنّ أنّها طريقة خاصّة في المشي أو شكل من أشكال الجنون !
في ذلك اليوم، كنتُ سعيدا جدّا. و أخيرا، وجه بشوش يطلب حضوري لأمثل عند قدميه !! قلّبني جيّدا بين يديه و سأل عن ثمني !!
كان يبتسم و هو يحشر قدمه في جوفي ! حتّى أنّه خطا بي بضع خطوات - في الحقيقة لم تكن هذه أوّل مرّة أجرّب فيها المشي لبضع خطوات – و لكنّ سعادتي كانت حين دفع لسيلين الجميلة مائة أورو ثمني و خرج بي يحملني في علبة ضيّقة بعض الشيء.
ربّما، بقيت ثلاثة أيّام في تلك العلبة أو أكثر. لا أدري تحديدا، ففي العتمة يصير الوقت ترفا.
المهمّ، في ذاك الصّباح، أخرجني السيّد منصور من تلك العلبة و ارتداني. كانت نعومة تلك الجوارب الجديدة مدهشة اللّذة حتّى أنّي كنت أتعمّد الانزلاق في قدمه لأتحسّس بشكل أفضل قماشة الجوارب و هذا كان يغضبه بشدة فيشتمني !!!
كنتُ منتشيا و أنا أسمع طقطقة كعبي على الأرضيّة، لا يمكن وصف ذلك الشّعور، إنّه يعاش فقط. بعض المشاعر تعاش و لا يكتب عنها. تحتاج أن تكون حذاءً لتفهم الأمر.
في ساحة عامّة، غير تلك التي أعرفها، كان السيّد منصور يحرّك قدميه بطريقة غريبة جدّا. كان يضرب بي الأرض حتّى آلم نعلي. كنت أظنّ أنّ لديه مشكلا ما أو أنّي ارتكبت خطأ فادحا و هو بصدد معاقبتي لو لا ذلك الحذاء الأعور المسلوخ الجلد، الذي كان محشورا في قدم العازف الذي لا يشبه عزفه في شيء عازف الكمان المسن التي كانت تحبّ سماعه سيلين الجميلة، أخبرني، و هو يضحك من تخبّطي و دهشتي، أنّ ذلك يسمى رقصا و أنّه، في الغالب، دليل على الفرح.
بعد تلك الرقصة التي كسرت عظامي و جعلتني أشعر بالدّوار ذهبت مع السيّد منصور إلى مكان يسمى المطار !
و بعدها ركبنا شيئا عظيما يسمى الطّائرة ! في الطائرة، و بسبب كلّ ذلك الرقص، نمت طويلا جدّا إلى أن أيقظني السيّد منصور و ليته ما أيقظني !
بمجرّد دخول السيد منصور إلى بيتهم بدأت معاناتي، كمّ هائل من النّعال و الاحذية يرفس وجهي و السيد منصور يضحك و يقفز دون أدنى مراعاة لوجعي !! ثمّ تركني عند الباب أجلس، هناك، كغبي بينما أحذية و نعال، تأتي و تذهب، تنظر نحوي بطريقة عدائية و تتحدّث فيما بينها بلغة لم أفهمها. لغة لا تشبه في شيء لغة سيلين الجميلة و لا تشبه حتّى لغة السيّد منصور قبل أن نستقلّ الطائرة !!
في اليوم التالي، ارتداني السيّد منصور مع نفس تلك الجوارب، لكن، هذه المرّة، صارت تنبعث منها روائح أزعجتني قليلا.
كان يريد الذّهاب إلى مكان اسمه مقهى ! هكذا سمعت السيّد منصور يجيب أخته حين سألته: أين ذاهب؟
في الخارج، لم يكن هناك شيء اسمه رصيف !!! كانت هناك أشياء خشنة تمتدّ على الأرضية، أحيانا كانت متباعدة في بينها، علمت من شتائم السيّد منصور أنّ تلك التّباعدات تسمى حفرا. و لكنّ المقزّز حقّا كان ذلك الشيّء الحاد و الرّقيق، حجما، لا ملمسا الذي كان يخدش أسفل نعلي و يجرح كعبي !!! يععععععع، إنّهم يسمّونه ترابا !!!
في المقهى، كنت سعيدا نوعا ما. لقد كان السيّد منصور يتفاخر بوجودي في قدميه و يحاول ابرازي للجميع، حتّى أنّ بعض من كانوا معه كانوا يتحرّشون بجلدي و يتأوّهون !!!! و كانت نعالهم و أحذيتهم تدحجني بنظرات كره واضح رغم أنّي لم أحاول حتّى الهروب منهم كلما دفعني أحدهم أو ضرب أنفي الطويل !!!!
ربّما، مرّت أربع ساعات، حين جاء عبد العزيز، الأخ الأصغر للسيد منصور، ليخبره أنّ الغداء جاهز و أنّ الجميع في انتظاره و طلب منه أن لا يتأخّر لأنّ المطر يهطل.
على فكرة، عبد العزيز هذا فعل بي الأفاعيل بعد أن إصابتي، ربّما، سأخبركم بهذا مرّة أخرى. المهم، سماعي بكلمة مطر جعلني أفرح كثيرا. ففي باريس، و أنا في غرفتي الزّجاجية، كان المطر فرصة رائعة للعبث، هكذا كنت أرى الاحذية، هناك، تفعل و هي تركض على الرّصيف.
كنت أستعدّ للركض، حين خرجنا من المقهى، كان المطر يهطل بغزارة لم أرها في باريس !! و كانت صدمتي أكبر من أن توصف حين وجدت السيّد منصور يمشي ببطئ شديد بينما كنت نصف غارق في ماء أسود كريه الرّائحة. كنت أختنق، بل كنت أتقيّأ، انزلقت بقدم السيّد منصور أربع مرّات و كاد يسقط مرّتين. كنت أحاول جاهدا رفع أنفي إلى الأعلى حتّى أموت اختناقا.
مائة متر، تقريبا، كانت تفصلنا عن باب بيت السيّد منصور حين وقعت الواقعة و التهمت حفرة كعبي !!!!
كان الوجع لا يطاق، حتّى أنّي فقدت الوعي و لولا شتائم السيد منصور لي لتوقّفت عن السّير. و لكنّ الأمر المؤلم حقّا أنّ السيد منصور لم يكلّف نفسه مشقّة التقاط كعبي من فم الحفرة و هذا اصابني باكتئاب شديد لأسابيع طويلة.
في البيت، كان جلدي متّسخا بالكامل و تنبعث منه روائح كريهة لازمتي لأيّام. تركني السيد منصور في الفيرندا و هو يشتمني بقذارة و بنتعل نعلا خفيفا قدّمته له زوجة أخيه و هي تقول:
فداك مليون سبّاط، عين و صاباتك وخي، كيف جات في السبّاط خير ما جات فيك لا قدّر الله، اللطف عليك.
الآن، بعد ثلاث سنوات، في هذه الخزانة المغلقة، العفنة و المظلمة صرت أفهم أنّ سبّاط يعني حذاء و أنّ زوجة أخيه كانت تقصدني أنا بكلماتها.
تبّااااااااااااااا لك أيّتها "الشلاكة" الملعونة على ماذا تتلصّصين؟؟؟ !!!!!!!!!!!
العنوان: ثرثرة حذاء عاطل عن المشي.
ثرثرة حذاء عاطل عن المشي قصة قصيرة بقلم هيثم الأمين / تونس
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
31 مايو
Rating:
ليست هناك تعليقات: