من مذكراتِ كائن طفيلي لا يراهُ أحد .محمد حبشي / مصر .

 ¤  من مذكراتِ كائن طفيلي ، 

     لا يراهُ أحد ..

                                       —————————————

.

.

1-  لا أدري كم مر من الوقت ، وأنا أقفز كضفدع ، 

بين أرصفة الفراغ ، 

والقطارات ،

التي فقدت عرباتها الذاكرة ..

قبل أن يقتفي أنفي ، 

آثار رائحتي 

العالقة ، 

بقميصٍ قديم ، 

أهديته ذات شتاء ، إلى بواب العمارة ..

عندما عُدْتُ إلي بيتي ، 

اعترت ظلي 

الدهشة ، 

حين لم يأبه بحضوري ، 

أو يكتشف غيابي 

أحد ، 

 لا زوجتي ، 

أو آنية المطبخ ، 

أو الكاميرا المثبتة فوق الباب ، 

أو الساعة المصلوبة 

على الحائط ، 

أو عدسات أولادي اللاصقة ..

.

.

2-  حين ذهبتُ في اليوم التالي إلى العمل ، 

مرتدياً أقنعة الخجل ، 

حاملاً 

فوق رأسي ،

بعض أعذاري الواهية ، 

التي أخبئها 

كالسحرة ، 

مع شعري الأبيض ، تحت قبعتي السوداء ، 

لم يأخذني أحد بالأحضان ، 

أو يلقي على وجهي 

التحية ، 

ولم تسألني الأوراقُ المكدسة فوق مكتبي ، 

عن صحتي ، 

أحوالي ، 

أو أين كنت ، طوال الأيام الثلاثة الماضية ..

ح

ي

ن 

جلستُ كعادتي ، في المساءِ على المقهى ،

تأكدتُ من نظراتِ 

العاملين ، 

من الجالسين على مقاعدهم كالتماثيل ، 

من المومياوات المنحطة 

أمام التلفاز ، 

من المتسولين ، الحائمين كالذبابِ حولي ، 

من الباعة الجائلين ، 

الحالمين ببيع ولاعة صيني ، 

لا تُشعل 

أكثر من سيجارتين ، 

أو بعض أمشاط الكبريت ، الغير قابلة للاشتعال ، 

من ماسحي الأحذية ،

اللاجئين 

بصندوقٍ أسود ، 

إلى أحد الممرات الجانبية ..

من بائعي الجرائد والمناديل المتطفلين ،  

أنني " رجلٌ خفي " ، لا يراهُ أحد ، 

حتى أزهار النرد ، 

لم تتعرف على بصماتِ أصابعي ، 

ومبسم الشيشة ، 

وفناجين القهوة ، وأكواب الشاي ، 

لم تستطع هي الأخرى ، 

تمييزَ ملامحي ، 

تجاعيد وجهي ، رائحة التبغ الكريهة ، 

التي تنبعثُ 

مع أدخنة الحزن من فمي ..

شعرتُ حينها ، 

أنني 

أصغر من نملة ، 

كالكائناتِ الدقيقة ، والطفيليات ، 

لا يمكن رؤيتي بالعين المجردة ..

صِفرٌ 

بلا قيمة 

على الشمال ، 

ليس له تأثير في أي معادلة ..

رجلٌ خفي ، 

يشبه كثيراً ، شريحة هاتفهُ المحمول ، 

مجرد ذاكرة صماء ، 

رقمٌ يتكرر ، 

لا يتذكرهُ أحد ، 

إلا بائعي السلع عبر الإنترنت ، وشركات الاتصالات ..

.

.

3-  بعد غياب ثلاثةَ أيامٍ أخرى ، 

دونَ فقدانٍ مؤقت 

للذاكرة ، 

اكتشفوا هذه المرة ، 

أنني لست موجوداً في غرفتي ، 

غربتي ، محبسي الانفرادي .. 

لم يندهشوا 

كثيراً ، 

حين قرؤوا ما كتبتهُ بخط يدي ، 

على زجاجِ نافذتي 

المكسورة ..


" حين يتساوى الوجودُ والعدم ، 

 فعليكَ الرحيل فوراً ، 

من هذا العالم ، 

فالمرايا العمياء ، لا تعكس على وجهِ الشمس ، 

إلا صور الآلهة ، 

ومهما فعلت ، 

لن يراكَ أحد ، أو يعود إليها البصر " ..

ح

ي

ن 

طال الغياب ، قالوا: 

ربما انتحر ، 

أو ارتدى " قبعة للإخفاء " متناهية الصغر ، 

كالتي اخترعها العلماء 

الأمريكيون ، 

نكايةً في عبد المنعم ابراهيم ، 

وهربرت چورچ ويلز ، 

أو " معطفاً ثلاثي الأبعاد " من معهد كارلسروه ، 

وربما يلعب معنا ك ( چوني ديب ) ، 

دور الرجل الخفي ، 

أو جنده أحد رجال ال ( سي.آي.إيه ) ، 

في فيلم " مذكرات رجل غير مرئي " ..

أو ربما يطارد الآن ، 

( اليزابيث موس ) ، بدلاً من ( أوليفر كوهين ) ..

في فيلم The invisible man , 

أو أصابته إحدى موجات فقدان الذاكرة ، 

التي تصيبُ عادةً كبار السن ، 

أو الهلاوس ، 

التي تصيب الشعراءَ المجانين في سن اليأس ..

لكن وكيلُ النيابة ، وَجَّهَ لهم ، 

تهم الإهمال ، 

والجحود ، والنكران ، 

وتجاهل أفضَى إلى الموت ..

.

.

4-  حينها ، عاد كل منهم سريعاً إلى شرنقته ، 

كي يمحو بصماتي ، 

من على كف 

يده ..

ويزيل من على خديه ، 

آثار قبلاتي 

القديمة ..

ويشعل النار في ألبوم الذكريات ، 

 وحُلَّتي السوداء الأنيقة ، 

التي كان يستعيرها 

من دولاب 

ملابسي ، 

لحضور المناسبات السعيدة ، وحفلات العزاء ..

ويلقي من نافذتي المكسورة ، 

ذراعي الطويلة ، 

التي كانت ، تمتدُ دائماً إليهم بالخير ،

إلى الكلاب المسعورة ، 

والقطط الجائعة ، 

التي أضربت عن الطعام ،

وامتنعت 

- مثل كلبي الوفي - عن التهام أصابعي ..

.

.

5-  حين حاولوا نزع صورتي من حوائط الغرفة ، 

جدران الذاكرة ، 

بكت صور الموتي ، 

ووضعت على صدرها شارات الحداد ..

واحتفظت في إطارٍ فارغ 

من الصبر ، 

ب أنفاسي / رائحتي ، 

ومساحة مناسبة ، 

تلائمُ دخانَ سجائري ، وعطري الأنثوي المفضل .. 

وفي قفصها الصدري ، 

ببعض قصائدي 

الملونة ، 

عن الفراشات ، التي كانت تسكنُ قلبي ، 

تسبحُ في شراييني ، 

وتحومُ في دمي 

حول النار ، 

حتى أنزفها ذات جرح ، على سطح مكتبي ، 

أو أصلبها ذات خطيئة ، 

على ورقة توت ،

كي أطعمَ بها 

في قبري ، 

الديدان الجائعة ، 

أو اتلوها على المَوتَى ، أو أزين بها الجدران ..


محمد حبشي / مصر ..

( 16 - 3 - 2021 ) — 12:15 صباحاً ..



من مذكراتِ كائن طفيلي لا يراهُ أحد .محمد حبشي / مصر . Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 25 مارس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.