في جمجمتي ثمة بندقية لا تكف عن الثرثرة للشاعر اليمني عبد الغني المخلافي قراءة رشيدة الشانك

 في جمجمتي

ثمة بندقية لا تكف عن الثرثرة 

للشاعر اليمني عبد الغني المخلافي 

قراءة رشيدة الشانك 

على وقع دهشة لحظات استثنائية التي ترغمنا على أن نرسم ما  يحدث،لا كما يحدث،لأن 

ما حدث سنة 2020، هو أكبر من مخيلة إنسان ، وحبر قلم نازف  يلف وسط دائرة لعله يعرف  اتجاه عقارب زمن كورونا  .

ما حدث هو ظرفية مازلنا لحد ساعة لا نعرف عنها شيئا،سوى أننا داخل قوقعتها،كيف دخلناها ؟ ومتى سنخرج منها،سؤالين معلقين بين دفتي مجموعة شعرية سنغامر اليوم باقتحامها والغوص في بحرها والغرق في دهشتها ص(5).

المجموعة الشعرية المميزة للشاعر اليمني عبد الغني المخلافي والتي عنونها بعنوان معبر "العصافير لا تكترثُ بما يحدث"تحمل الكثير من المعاني  تسبر أغوار أرواحنا المنهزمة،المنعزلة والمتشظية والخائفة  أمام هول ما يحدث الحرب المنفى وكورونا. 

كيف بمقدوري أن أهنأ

تحت وطأة كورونا

وسطوة الحرب ؟ص(57)،وفي إشارة أخرى وأنا المريض بالشعر والوطن ماذا لو أصبت بكورونا؟

في هذه الظرفية الصعبة  حيث  الألم المترامي ص (6) ،وحيث الجنائز تتقاطر، يعلو الصراخ يسود الفقد ص (58)  ،ستطل علينا عصافير الشعر التي حسب شاعرنا عبد الغني المخلافي لا تكترث بما يحدث ، وإن كان هو مهتم لم يحدث لها وغارق في تتبع أخبارها .

والعصافير هل عاودت ،بناء الأعشاش قرب المنازل؟ص8 

نعلم أن العصافير تبحث في بناء أعشاشها في مناطق  خلاء ،يعشعش فيها الخراب وغادرها أصحابها، خوفا من الحرب ولعنتها، ومنطق الخراب، ربما عودتها دليل على فراغ مدينة وموتها البطيء ،في مستنقع تيه لا نعرف سوى أن هناك شيء  حدث ،وما يحدث مخيف مرهب ومظلم. 

يقولون :الحاصل الآن 

شيء مخيف ومظلم

لم يسبق أن عاشته المدينة 

المدينة التي يتحدث عنها شاعرنا  لست مجرد بناء مادي يحتضن تجمعا سكانيا ،بل هي كيان حضاري حي يختزل تاريخ  الدول التي تعاقبت على حكمها  بل تاريخ الشعوب التي تعايشت بين أحضانها ،هي مرتع الآمان والأحلام ،هي الوطن هي الأم هي الطفولة هي الشعر والغناء ص(8).وللأسف مدينته مدينة حرب وطنه الأكبر لم يمنحه  سوى الجنسية والمنفى البارد ص(22).

 المدينة الآن تنزف صديقي الشاعر، من هول ما تعيشه بين إخوة قساة،وأيادي الغريبة  تتحسسها شهوة وغدرا للانقضاض على بكارتها ،تتألم بوجع لا تعرف حتى من سدد لها ضربة الموت بنيران صديقة .

في مدينة كان لك فيها ،ولم يعد الآن،ثمة شعب تحت الأنقاض ،الوطن بكامله يموت،ص73،كان لك فيها:جيش من المؤنسات،وخمر الأغنيات، وطائر يشدو بأحلى النعم ص (11)،الآن أنت حبيس جسد وثرثرة عقيمة لأسطوانة حرب خاسرة منذ البداية.

في جمجمتي 

ثمة بندقية لا تكف عن الثرثرة ص(13) وبما أن المدينة تحتضر (الدماء النازفة)  في زمن الكرونا وزمن الحرب ولغة الرصاص (الأدخنة الكثيفة)، يحاول شاعرنا الهروب شعرا  (اهرب من لغة الحرب  إلى شعر محمد الماعوط ) الملجأ الوحيد الذي يقتات منه ، وسجارة تقيه وحشة ليل هي الرفيق الحميم ص(15).

في متاهات الحيرة،ووحل من الحسرات،ص(19)،برد الغربة والعزلة الشديدة ،تتسع درجة الوجع،وتتكرر المأساة :القصيدة التي لا يستطيع شاعرنا الخروج  بها ،ودخيرته كشاعر التي تنفد دون عشق امرأة ص(26) ،المرأة  الأنثى الموجودة والمختبئة بين نصوص المجموعة التي يتحدث عنها ،تظهر وتختفي لا يفصح عنها هي الحبيبة هي الوطن هي المدينة هي كل الألوان المفرحة التي كانت والآن فقط يستعيدها ذكرى.

في غيابكِ كل الأشياء لها طعم مر :

الطعامُ ،الشاي ، السجائر

الموسيقى، الشعر ،المطر .ص(33)

المرأة تتناثر  أخبارها  بين أرواق الديوان ولكن تسكنه بشكل طاغ  ،"ماذا لو كنتِ معي" ص(31).وسط أماكن الذكريات حضوركِ طاغ (ص54).

ثمة شابة تغتصب

قلب رجل في الخمسين 

يعيد خلق الأشياء 

بأشكال وألوان حية ص.29

المرأة التي تنغرس في روحه بقوة جبارة،تركضين في صدري كفرس جامحة رغم سنوات الحرب والزمن القاسي ص(51).المرأة ،الوطن، المدينة وجع ممتد "وخمسون عاما بأوجاع ناتئة وأحلام متشققة في ذاكرة الريح ص75"وعصافيرك  أين عصافيرك أيها العصفور المهاجر ،الذي يحلم بصباح تعطره رائحة قهوة ،وبشمس تديب ما تبقى من ثلج، وعلى جدار قلبك تصلب الذكرى، أنت العصفور المهاجر شاعرنا عبد الغني المخلافي  المتكئ على جدار الزمن ،خذلان الوقت ،بين موانئ الفلك الغريب تلاحقك الكوابيس من محطة إلى اخرى ص(76) أين عصافيرك التي تدعي أنها لا تكترث بما يجري ،وأنت تدعونا إليها  لنحتفي معها :هي المفارقة التي يخلقها شاعر بين حرب وعصافير مدينة تنزف :

غن ارقص مع العصافير، تداوى بالموسيقى والكتب ص(45)

في زمن كورونا 

العصافير وحدها من تبادلني الود ص(39) تمنحه القليل من الاطمئنان و،ولهذا يكترث كنوع من التواطؤ معها ضد زمن كورونا مجبول على العصافير ص(40) ،

ثمة معزوفة غنائية 

تقدمها العصافير ولوحة خلابة يعرضها المطر ص(37)

بل هي العصافير التي صمدت أمام الأدخنة الكثيفة ،والدماء النازفة ،ولغة الحرب ،هي الآن تشدو  تقيم كرنفالات الغناء في الصباح ص(47) ،تنسي شاعرنا كوفيد 19 ومعها يمضي "امضي حيث العصافير حيث الجزر والضفاف ص(62) ليخلع أحزانه ويغتسل بالقصائد ص(45)،ففي الأجواء ثمة شيء من البهجة ص(55).

حين تجتمع الحرب، برد المنفى ، مخالب الغربة ،وجنائز كرورونا اللعينة ،يضيق هذا مدى  بتفاصيل موؤودة ،حزن يلملم جراحنا يهمس لنا أن نكتب قصائد بقافية الخلاص  نتشارك فيها الألم  لنضيء  لحظة الولادة  أكسر الأقفال الحديدية وأخرس البنادق على الأرض ص(70)  نتمهل وننتظر الآتي أجمل لو كان يحكي .

يمكنني أن أطعمك قصائدي 

جنوني الذي لا ينتهي

عشقي الذي لا ينضب

فصيلة حبري النادرة 

دموعي الخالصة عصفور قلبي ص77.

تحية شاعرنا عبد الغني المخلافي وتحية لمحبة  الشعر الذي يجمعنا وإن فرقتنا المسافات.