دراسة نقدية في ديوان همسات القمر للشاعرة اللبنانية فاطمة منصور بقلم الناقد حميد الحريزي

 لكم اعتز بقامة ادبية احتضنت حروفي وترجمتها دررا لكي اترصع بها واتفاخر اديبنا الناقد حميد الحريزي الجليل وشكرا لضمها في كتاب ( قول في الثقافة والأدب ) الصادر حديثا 

في زمن تراجع النقد البناء والموضوعي.

واذا بك تطلع علينا بذوق استثنائي ولعبة فنية قلما يجيدها المعاصرون مدعو الادب والنقد والذوق الجمالي

دمت للشعر الاصيل سندا

شكرا لهذه الدراسة القيمة وشكرا للقيمين في جريدة العراقية الاسترالية لنشرها

همسات القمر

(تصيحُ الكلماتُ أنّي عاشقةٌ، أطفئُ ظمئي بالقبلِ الحرَّى، وتماهي فيَّ، فأنا أنتَ ونحنُ حماةُ الكون ).

دراسة نقدية بقلم الأديب : حميد الحريزي

العنوان :-

عنوان المجموعة الشعرية للشاعرة فاطمة منصور(همسات القمر ) مشبّع بالرقة والرومانسية، يثير في نفس المتلقي وخياله فضاء من الجمال والاحلام الجميلة، ويسقيه بكؤوس من حميمية وعذوبة الليل المقمر؛ ليسرح في عالم العشق وتراقص النجوم، فالقمر يمس بكل ما هو جميل وقريب للروح، فهو حافز لإثارة الشوق والإشتياق، أو يعمق من لوعة الفراق والهجران. همس القمر يترجم لغة الأشجار والأزهار وحفيفها المضيء. الهمسات تكسب مويجات النهر أثواب البهجة والرقص على نسمات الهواء العليل؛ ليسبح المتلقي بعالم من الخيال والجمال، وهذا هو مفعول الشعر في حياة البشر .

(الشعر في جوهره يشكل الاحساس العميق للبشرية، التي ستعود يوما الى طفولتها الاولى، ولن تجد أمامها غير الشعر الذي يحميها من جبروت أفكارها المدمّرة ) السرد وأسئلة الكينونة – بحوث في مؤتمر عمان الاول، اعداد د. حاتم بن التهامي فبراير 201٣- ص23

لقد مر الشعر بمراحل عديدة خلال تطوره وتبدلاته، تبعا لتطور وتحولات الحياة الانسانية، حتى وصل الى ما هو عليه من قصيدة نثر وقصيدة ومضة، والتي عرفها النقاد ب ( قطعة نثرية موجزة ، موحدة، ومكثفة ) اشكالية قصيدة النثر – نص مفتوح عابر الانواع – عز الدين المناصرة - ص31.

ووصفت ب ( نوع من التمرد والحرية، أكثر من كونها محاولة لتجديد الشكل الشعري) ص31 - المصدر السابق نفسه .

و(أن قصيدة النثر هبأت حديث يسمح بأشكال تحفظ وهجا في اللغة على عكس القصيدة الغنائية، ولكنها تشيد بحقوق الفرد وبكل شكل غريب على نقيض الخرافة والحكاية) ميشيل ساندرا- قراءة في قصيدة النثر – ترجمة أد. زهير مجيد مغامس - ص2٩.

نريد أن نقول: إن هذا النوع من الشعر نزع عن كاهله كل ما يثقل روحه من أعراف وتقاليد وخرافات ما سبقه من انواع مقيدة بمختلف الضوابط والروابط ، حتى صار أجمله أشبه بلبلبل غريد داخل قفص، فاقدا لفضاء الحرية، لا ندري هل ما نسمعه تغريد فرح أو أنين قيود وفقدان حرية الطيران، حرية المرح بين البساتين وعلى ضفاف الانهار والوديان والروابي والجبال والسهول. هذا النوع من الشعر لا يريد أن يرى الانسان المتلقي صنماً فاتحاً أذنيه وفمه ليدفع الشاعر لقمة طعام اعتاد تناوله كل يوم، وكل أكلة تشبه -ان لم تطابق- ما سبقها، في حين أن هذا النوع من الشعر يشغل فكر وعين المتلقي، ويشارك في تحليل وتأويل وتذوق النصوص ليكون مشاركا فاعلا ،وليس منفعلا فقط ..

واستسهل البعض من (الشعراء) كتابة هذا النوع من الشعر فأساء اليه كثيرا، فهذا النوع من الشعر كثور هائج، يجب ان نعرف كيف نروّضه والا أفسدنا كل شيء، وكما يقول رسول حمزاتوف (أذا لم تستطع أن تمسك الثور من قرنيه فلن تستطيع أن توقفه أذا أمسكت به من ذنبه ) بلدي – دار الفارابي، ط3 -2006 ،ص9. وبالتالي سيقوم بسحلك خلفه ويشوه حالك، وبالتأكيد سيقضي على مستقبلك الأدبي الشعري .

وعلى من يريد أن يسجل حضورا في عالم الابداع وتأليف كتاب في الشعر أو السرد، أن يكون حذرا نبها فطنا، وأن يمتلك كل لوازم العوم في هذا البحر المترامي الاطراف الذي ليس لأعماقه قرار، وأن يحمل هذا الكتاب سرّ جماله وإمتاعه ومؤانسته للمتلقي بين طيات دفتيه، وحين يعثر عليها القارئ يشعر شعور غواص تمكن من العثور على لؤلؤة ثمينة، أو كما يصفها رسول حمزاتوف بالتعويذة ( في كلّ كتاب يجب أن تكون تعويذة ...، يعرفها المؤلف ويحرزها القارئ لكنها مخفية تحت الملابس ) المصدر السابق نفسه، ص 42.

لندخل الآن الى رياض (همسات القمر) للشاعرة فاطمة منصور، ونرى من أين أمسكت الثور، وماهي التعويذة التي تخفيها مجموعتها الشعرية بين ملابسها.

نحت الحروف وأنسنة الكلمة :-

الكلمة في المخزون اللغوي للإنسان تحمل معناها القاموسي كما تعارف عليه الناس، وما تراكم بخصوصه من معنى عبر الزمن وعبر الاستخدام في مختلف تحولات المجتمعات: الاقتصادية والثقافية والسياسية. فقد نجد المعنى الغابر للكلمة يختلف اختلافا يكاد أن يكون جذريا عمّا هي عليه الآن، ونجد أن كلمات لفّها النسيان، ولم يعد لها وجود إلّا في بطون كتب التراث القديم، وقد دفنت مع الحضارة المندثرة كما تدفن زوجات وعبيد سلاطين بعض الحضارات في حضارات شعوب غابرة .

وعليه، يجب على الشاعر على وجه الخصوص أن يمتلك خزينا لغويا ثرّاً، وأن يجيد استخدام المفردة، ويضعها في مكانها الصحيح؛ لتكون راضية مرضية بما وضعت به من مكان ضمن العبارة، وكما يقول حمزاتوف ( اللغة الضعيفة بالنسبة للفكرة النافذة، هي تماما كالذئب للحمل ) المصدر السابق نفسه - ص 54 .

وهنا يجب التمييز بين الفذلكة والتكلف في اختيار المفردات لتشكيل لغة قوية، بل المهم دقة الاختيار ووضع المفردة المناسبة في المكان المناسب، فسنراها تشع بمعناها ومبناها رغم بساطتها ( أروع الجرار تصنع من الطين العادي، أروع الأشعار من الكلمات البسيطة ) المصدر السابق نفسه - ص56.

فامتلاك ناصية لغة الكتابة للكاتب ،وللشاعر على وجه الخصوص، أمر في غاية الأهمية، وبدون ذلك سوف يكون عاجزا عن الإتيان بعمل أو نصّ شعري ذي قيمة إبداعية، وكما يقول حمزاتوف ( الانسان الذي يقرر كتابة الشعر وهو لا يعرف اللغة، كالمجنون الذي قفز الى نهر جارف وهو لا يعرف السباحة ) المصدر السابق نفسه - ص 67 .

لا نريد أن نسترسل في عرض دروس وعبر وإرشادات هذا المعلم الكبير والشاعر الرائع حقا، وإنما أردنا أن نستدلّ بمقولاته على الابداع والتفرد والتميز عند شاعرتنا في مجموعتها الشعرية موضوع الدراسة (همسات القمر ) المؤلفة من (55) نصاً شعرياً.

ففي نصّها الأول (بريقُ الذّهب )، الذي يمجّد ولادة السيد المسيح عليه السلام ، حيث تقول: (بلغَ الهناءُ البسيطةَ

تموَّجَ أفقُ السّماواتِ

وماتَتِ الرّذيلةُ )

نتوقّف عند ( تيبّسَت في تراتيلِ يسوعَ

تنازَعت معَ العطاسِ )

نلاحظ هنا كيف تمكنت الشاعرة من أنسنة المفردة ، حيث تتيبّس التراتيل ويحدث تنازع مع العطاس، الترتيل مخلوق حيّ يتيبّس، والعطاس مخلوق إمتلك قدرة التنازع!!!

وفي نصّ (قطافُ الحبِّ)

تكون للمسافات أرجل تتمدد، ونهد غارق بالشهوة، وفاطمة تتحول الى ساحل قصيّ، والعتاب كائناً لديه مدفأة، والمسافات فتيات تتكحل بقبل تمتلك قدرة الهروب، والذكريات تفقد قدرة المشي ... إنها عبارات تتكلم، كائنات حيّة تمتلك كل صفات الانسان في الفعل والانفعال، وتقبل الصفات والتوصيف والتعريف .

في (ضيْف)

يا للروعة، ويا للحياة الممنوحة للوسادة التي تتحول الى قلب يمتلك القدرة على أن يدقّ، ان ينبض ( ما بينَ اليقظةِ والحلمِ تسارعتْ دقّاتُ وَسادتي)!!

وما أعظم هذا القديس الذي (يوقدُ في الثلج )، في الثلج موقد!! لا يوجد هذا الموقد إلا في خيال هذه الشاعرة ذات الخيال الباذخ، فلا نتفاجأ حينما يورق صفير خافقها بالحسنات، هذا الخافق يتحول بقدرة شاعر الى شجرة مورقة، ويستدل على ثقب في الروح، نعم ايّها المدهش (شاعَ أنا ونيزك من صنْوِ الرّعدِ أدخلُ ثقبَ الرّوح) !!

والأنفاس كائنة تعاتب لأنها (ساكنة لا تنزفُ الشّوقَ. وأنْ يقيمَ مأتمَ الأحزانِ على شَفا حفرةٍ منْ نار)!!

(مسكونة في الحبّ)

تصير ، تخلق الاعجاب سماء وغيوما ممطرة (لم يستمطروا إعجابي)

صانعة المعجزات والغرائب، فتملك

الحصى أجنحة ليطير ( ربّما ألتقيه ضاحكاً مع الحصى الطائر).

تخلق للقلب جناحا (تغفو على جناحِ القلب ) ، وهي طاهرة حتى وان كانت عارية بلا ثياب ( وبلا ثياب تلبسُ طاهرةُ المساء )...

ويبلغ التحدي أقصاه ( وأتصبّرُ على الآتي رغمَ أنفِ الحرّية )

(لا شيءَ على مائدتي)

الموج مخلوق يمرض ويتعافى، هكذا ملكة الشعر الروح ( أو تركب موْجَ العافية )

(بلا وَجَع)

العلل قوافل تتحرك، ترحل أو تستريح ، والصبر يمتلك القدرة على الكلام او الصراخ او الصمت ( أنتظرُ مرورَ قوافلِ العللِ بصمتِ الصّبر). والسماوات إمرأة، ولود مرة، ومرة عاقر، هنا هي المسكينة (سماواتٌ عاقرة )

(ليلُ الخيال)

القنديل يمتلك قلبا (وسطَ ثلجٍ متراكِم )، والغريب ان تذيب قطراته ليس النار بل قطرات البرد، أما الأودية فهي أطفال يكركرون (بمياهٍ نقيّة ) فليس غريبا أن تكون للشوق بلابل تغرد، نعم لا غرابة، فانت في بستان الشعر لشاعرة امسكت الثور من قرنيه .

(قطراتٌ من مَطر )

هنا الافق يؤَنْسَن، ويملأ كأسا بنفسجية، فتاة تشكو العري على الرغم من أن الطقس صقيع ... بأمر الشعر، تتحول الكأس الى فتاة مطيعة مذعنة لآلهة الشعر، وتتعرى في الصقيع.

وبعد ماذا؟

(وكناري حطّ على نافذة

تحتَ النافذةِ فتاة

تتَوسّد زنْدَ الحبّ

تقبّلُه ) هاهو الحب مخلوق له زند تتوسده العاشقة !!

(تباشيرُ النّدى )

أي تباشير رائعة هذه التي يأتينا بها الندى، هذا الذي يقول عنه الناقد الكبير ياسين النصير ( الندى طائر لا يطير الى أعلى )، ص154.

(الندى أكثر اللصوص الطبيعية التي تسرق الضوضاء والغضب ، وتزرع الهدوء الصاخب )، ص153.

(الندى الأنثى المائية الهادئة الشفافة التي تلقح الضوء والشجر والرؤية )، ص157.

(في بحر يمتلك ذاكرة للحنين ، تسافر في أوصاب الروح، وتمنح الجسد رعشة كتباشير الندى) فما أروعها من تباشير، كما وصفها النصير.

(قيدُ رعشة)

للشمس رسول يتوجب عليه إيقاظ مافات الانسان واشقاه، ورؤوس وقلوب محمّلة (منْ فيضِ الأشواقِ والحنان).

في (سيرة محتال)

تخلق للحروف (أجنحة خَجلى)، ثم تكون للحروف أفواه وألسنة ف(ينعتقُ همسَ الحروف) وللورود أحضان ..

(زاجل)

للريح أذن نهمس فيها لتحمل انفاس الحبيب وقبلاته عبر مداعبة شفتيه وملامستها، ويحوّل شفته خمرا، يقدم للحبيب بكأس الريح، ففي أحضان الحبيب تسجل ولادة جديدة .

وفي (قيد التكوين) للخطوات همس تسير نحو الحبيب .

يمتلك الشاعر قدرة السحر وفعل اللامعقول، ففي (نبوءَة) تمكن الانسان من السير على الغيم (أمشي على الغيم، وأمنحُ الأرضَ شهوةَ الرّبيع ).

(إنزياح)

يتحول الماء الى ابجدية، وأية ابجدية ! تمتلك القدرة على (موسقة الكيمياء)، وتمكن روح الحبيب من التراقص بين يدي المحب .

فالماء الذي قيل فيه (وجَعلْنا منَ الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ)، يحيي الانسان والحيوان والنبات، كذلك يزرع الحياة في روح الشعر، أو يخلق للشعر روحا تفيض بالحب والجمال، وكما يقول الناقد الاستاذ ياسين النصير (لغة الماء دائما مجازية، ولذلك تدخل الشعر من أبوابه الواسعة ) ياسين النصير – شعرية الاشياء – دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر، ط1 2018 - ص 161.

كما يقول (جريان النهر وسط البساتين ، من أجل تغذية الاشياء جنسيا، ثمة مني كوني يحمله الماء للأشياء) المصدر السابق نفسه ، ص169.

خرير الماء موسيقى كونية تزرع الامل بالخصب والنماء والفرح للإنسان إبن الطين والماء ، وكما يقول حمزاتوف (لم يسمع في حفلات الزفاف وفي الاعياد كلها نغمة أشجى من خرير الماء) رسول حمزاتوف - بلدي - ص323.

عبر ال (55) نصّا شعريا في (همسات القمر)، تبعث الشاعرة الحياة وتؤَنسن الشجر والطير والماء والحجر، فلو أردنا ان نستعرض كل حالات التخليق هذه في رحم المجموعة الشعرية؛ لاحتجنا الى كتاب كامل للإيفاء بالغرض المنشود، ولكننا عبر إيراد بعض هذه النماذج، انما نؤشر الى ميزة هامة من مزايا الابداع المميز لخيال الشاعرة في هذا المجال، وعليه ان يستمتع بهذه الحيوات، ويؤاخي هذه المخلوقات، ويتمعن في سلوكياتها الانسانية، فيمتلك قدرة فهم لغتها ومخاطبتها، كما تروي بعض الاساطير بأن الانسان كان يعرف لغة الطيور والاشجار والاحجار، وهي صفة كان يتمتع بها الانسان ما قبل الحضارة، وكانت ذاته متماهية ومندمجة مع مكونات الطبيعة .

والميزة الابداعية الاخرى للشاعرة في المجموعة : انها جعلت من كل نص من نصوصها قصة متكاملة الاركان لها بداية وبؤرة ونهاية، أي ان نصوصا عبارة عن سرد منثور، أو نثر سردي، إن صح التعبير.

فمثلا في نصّ (وَشْوشات ) يدور الحدث بحوارية بين الشاعرة وبين النافذة حول كيفية وزمن ولادة القصيدة ، ف(الحرفُ يحتجبُ حينَ يفقد الحبرُ شهوةَ الإندلاق، هكذا تحافظُ على عذريّتها الأوراق).

فأيتها الشاعرة (اقفلي النافذة )، إحتفظي بأسرارك الليلية حتى يحين اشتهاء الاوراق فقدانها لعذريتها، عندها تكتمل قصة كينونة القصيدة ( فوقَ الأوراقِ المُحتفيةِ بعرسِ بكّارتِها). فما أجملها وأبلغها من قصة.

تستدعي الشاعرة في أغلب نصوصها الندى، الاشجار، الأنهار، والأطيار ومنها البلابل.

ففي نصّ (عشقْتك) تقول: (على متنِ لغةِ اللهِ بحروفٍ منْ نور، تتهادى قُبَلاً وأغاريدَ على نافذة). وسيشهد القارئ العديد من هذه القصص الممتلئة بجواهر المعنى الخلابة، كنصّ ( حكايتي الخجلى )، و نصّ (الشمس والقمر ) مثلا.

(تشتهي تغريدَ بلابل )

البلبل، هذا الطائر الجميل المغرد دوماً، هذا الطائر الذي لا يعرف الصمت، سواء في البساتين والمروج، على أغصان شجرة البرتقال أو على عذق نخلة برحية، أو في داخل قفص، فهو يغني ولا يفقد الأمل في حرية مأمولة، يصفه الناقد ياسين النصير:

(البلابل هي الانثى الكونية التي تعيد تكوين الأشياء الارضية مع الأشياء السماوية في نغمة كونية طبيعية، من خلال أعشاشها المعلقة ما بين السماء والأرض) المصدر السابق نفسه، ص172.

في (فجوةُ الخَيبة )

تنسج الشاعرة نسجا جديدا يحمل معاناة الفقراء والمهمشين وهم يعيشون في جهنم، حياة سرقها منهم أهل الثروة والسلطة المال، فتكون كل حاجاتهم أسيرة الفقر والعوز (وأنا أتشفّعُ في زحمةِ حاجاتي الأسيرة).

نعم، (الأفراحُ ليستْ عاقرةً .. ولكن حضنَ الأحزانِ يتاجرُ بالبكاء)، أي حضن قاس ومؤلم هذا الذي يتاجر بالبكاء، إنه حضن مجتمع الفوارق الطبقية والاستغلال والافقار المتعمد، مقابل اتخام قلة قليلة من اصحاب رؤوس الاموال. وبذلك تقترب الشاعرة كثيرا من هموم الأغلبية الساحقة من أبناء وطنها وهموها هي بالذات. وعليه تقوم بواجب التنوير والتثوير، ليس بالشعارات ولكن بإرسال شعل النور والتنوير والتثوير للضمائر الحية، واستنهاض هممها من اجل بناء عالم أفضل لاجتثاث الحزن، لان الأفراح ولودة بالبهجة والسعادة والسلام لبني البشر، لولا ان الأحضان النتنة تتاجر بالبكاء والآم الفقراء، وكما يقول حمزاتوف: (الشاعر لا يمكنه أن يكون ظلا ، بل انه نار ومصدر نور) بلدي – رسول حمزاتوف، ص 107.

(الشعر يمثل أعلى درجات الوعي في الكلام ) ت. س. اليوت - فائدة الشعر وفائدة النقد - ترجمة يوسف نور عوض، مراجعة الدكتور جعفر هادي حسن، دار القلم - بيروت ط1 1982، ص 25.

الشاعرة، وعبر نصوصها، تقترب أحيانا من النص الشعر الايروسي الشفيف بطبعته المخففة القريبة للنفس والبعيدة عن المباشرة والابتذال، فتنعش ذائقة المتلقي بهذا الشدو الانساني المحب للروح، والملامس للجسد والنابذ للجفاف والتصحر، ففي نصّ

(أنثى مغْناج)

تحملنا الشاعرة على أجنحة الرغبة؛ لنعيش رغبات إنسانية مشروعة ، بعبارات وصورة مشبعة بالحسّ الجمالي الايحائي (على كتفِ الغيْمةِ ، أنثى مغْناج تجلسُ عاريةً إلّا منْ ضوء تتوهجُ شَغفاً شَبقاً )، وتستمر، وتتوالى الصور (فعيونه سابحة في نهديها )، ليأتي النداء(تعالَ إليّ إحْكِ ) اركب أصوات الحب (فتعالَ صدري عارٍ قد أفردتُ ذراعيّ لأعانقَك) تسقيه قبلا وشوقا، وتمطره شوقا وخمرا ((سأوافيكَ جرعاتٍ تُسكرني لنُحييَ على كتفِ الغيْمةِ شهراً للعشق )!!! وكذا هو الحال في نصّ (حرمانُ عروسةِ الشّعر)

(تخشى أن يداهمَها الخريفُ فتحْملها الرّيحُ يجفُّ العطرُ وتفرغُ الكؤوس من خمرةِ الشّفاهِ وعطرِ الجلّنار في النّهدين ). و في (جدائل نشوى ) ( أتشهّى مَن يطرقُ بابي فيسامرَني فيـلوكَ شَفَتي)، ونصّ (عطرُك المتواري ) (هاتِها تلكَ اللمسات واتركني أغفو على وَسادتِك المخمليّة ، حلوةٌ أحلامي معكَ كرّرْها أرجوك وهي آخرُ الأمنيات ). ونصّ (السّحر) (فمتى ألقاك؟ سآتيكَ موشحةً بأريجِ الياسمين وفي جيدي عقدُ السّوسن، خُذني وقبّلني، وتنَشّق غوايةَ عطري، وازرع قبلاتَك ما بينَ ثغري ونَحري)، الله، الله!! أية بقعة ساحرة مسكرة ما بين الثغر والنحر !! ونصّ قصيدة (لا .... أحلم) حيث تستدعي هنا الشاعرة المطر (يا أّيها الليلُ كمْ تشبهُ حبيبي، إنّها ليلتي، طرقَتْ قطراتُ المطرِ على شبّاكي )، الله، الله!! ما أجمل وأحلى وأعذب صوت المطر، عنوان الخصب والنماء، عنوان احتضان الماء لحبيبته الارض التي تتلهف وتتحرق شوقا للقياه، تنصت بهيبة وقدسية لصوته الحبيب، وكما وصفه شاعر داغستان الكبير (لا موسيقى أعذب من صوت المطر ) رسول حمزاتوف - بلدي - ص319.

ممّا سبق من عرض لعدد من نصوص (همسات القمر ) باختزال كبير، لا يمكننا إلا أن نرفع القبعة للشاعرة الرائعة؛ لإبداعها الشعري المميز، وقد ولدت قصائدها من عالم الجمال، عالم الواقع المتسامي والمترفّع عن القبح والساعي للرقة والجمال، فنجد كلماتها حية وليست دمى أو أشباح كلمات، فاستولدت من زواج الكلمات نصوصا، أولادا وأطفالا في غاية الحسن والجمال، وكما يقول حمزاتوف ( لا يولد أطفال من تزويج الدمى ) بلدي، ص53.

يقول حمزاتوف: ( يمكن للرجل أن ينحني في حالتين؛ ليشرب من العين، أو ليقطف زهرة) بلدي، ص21.

وأنا هنا انحني امام (همسات القمر) مرتين لأني شربت حتى ارتويت من ماء عيون الهمسات الماء الزلال القراح الذي يروي ظمأ العطشان للجمال والحب والكلمة المبدعة، وقطفت باقة من زهور الجمال الشعري الآسر بألوان مختلفة زهورا تفوح شذى ينعش الروح والقلب.

وللبحر في قصيدها نصيب كبير

(البحر)

هذا الساحر الساخر الهائج المائج الصامت الساكن، الصاخب المتفكر الهادئ، الفسيح المريح، حاوي العجائب ومالك الغرائب، كانز الجواهر ومولد الظواهر، أنيس العشاق وحاضن القرصان ، جامع الكواسج والقرش، وحاوي اللؤلؤ والمرجان .....

(وأنا والبحر حكايةٌ ألِفُها ملاذٌ وياؤها استحواذ)، فتعيد الى مخيلتنا بحر فيروز وحنا مينا وأرنست همنغواي، وحوت موبيك، وسفينة تايتنك ..

للأمومة وحنانها نصيب في جواهر فاطمة نور، كما في (ابنتي ريبال الحبيبة) حيث المشاعر الدافئة والحب والحميمية الصادقة المعبرة عن غريزة الأمومة وسموها.

(فعذراً يا فلقةَ قلبي ومَلاكي إنْ تواضَعَتْ أبجديّتي وانحنَتْ أمامَ ساطعِ سَناك)

تخليق الشعر ولادة، ومخاض القصيدة مخاض عسير مؤلم يولد الأنين والصراخ، في الوقت نفسه يجري دموع الفرح حين تولد القصيدة الجميلة المشتهاة، مما يتطلب من الشاعر ان يحتمل معاناة المخاض بصبر وجلادة وحكمة، ويحسن اختيار المواضيع والكلمات، ويضع كلّ في مكانه الصحيح ( لا تحاول ان تطعم النسر نبتا، والحمار لحما) كما يقول حمزاتوف، بلدي، ص123.

تظهر لنا هذه المعاناة الشاعرة في نصّها بعنوان (صورَتي) (على بابِ الشّعرِ أقفُ حائرةً ألتمِسُ حوارَ الكلمات).

عالم الشاعر: عالم كلمات وصوت وأحاسيس ومشاعر. الشاعر تمتلكه الكلمة، يتحمل، يقاسي الحر والبرد وهجير الصحراء وهيجان البحر وفيض النهر ووحشة الفيافي وغلظة الناس ووعورة الطرقات ومخاطر التجسس والإنصات، ولكنه على الرغم من ذلك ينصب شباكه ليصطاد الكلمات، فهي زاده ومراده، ومبعث سروره وفرحته. فالكلمات كما يصفها ياسين النصير ( عصافير تطير في فضاء الورقة البيضاء لتمحو بياضها الزائف، ونكتب فوقها لتكشف بياضها الحقيقي الناصع) ياسين النصير - كلام النص- مكتبة عدنان، ط1 2018، ص 53.

وكما هو الحال في نصّ (أنا والكلمات )

(وتصيحُ الكلماتُ: إنّني عاشقةٌ أطفِئي ظمئي بالقُبلِ الحرّى، وتماهي فيَّ، فأنا أنتِ ونحنُ حماةُ الكون ، اسكبيني خمراً في شَفَتيك وَلَهاً، حبّاً يتهادى نشواناً في نهديَّ في شَفتي .. لأكونَ قصيدة ).






دراسة نقدية في ديوان همسات القمر للشاعرة اللبنانية فاطمة منصور بقلم الناقد حميد الحريزي Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 14 يونيو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.