أدور حول المعاني مقاطع من "وردة التخييل الذاتي " أشرف يوسف

 أدور حول المعاني 

مقاطع من "وردة التخييل الذاتي "

أشرف يوسف



28


لماذا لا يُقال عن تلك الجَزيرةِ المعزولَةِ 

شيءٌ مُطابِقٌ للمُواصَفاتِ؛ 

تِلك الجَزيرَةُ الَّتي وَصَلتُ إليها،

مَمدوحَةٌ من زُوَّارٍ في نَفسِ المدينَةِ الصَّديقَةِ 

الَّتي أعيش فيها كبطَلٍ مِغوارٍ... 

عزيزايَ: صديقي المهاجر وصديقتي الميتة، 

سواءً في البَار الكَنَديِّ أو في مَقابِرِ العائِلَةِ المكلومَةِ؛ 

أَمَّا بَعدُ، 

فكما تَعرِفان عن الرَّحلاتِ القَصيرَةِ 

الَّتي يَكونُ المرءُ فيها خَفيفًا 

كأنَّه ذاهِبٌ لِبارٍ بِجانِبِ بَيتِه 

فَيَظلَّ لأيَّامٍ ولَيالٍ يَبحَثُ عن ضالَّتِه 

بأن يَجِدَ شَخصَيْن أو أَكثرَ 

قد ذَهبوا لِنفسِ المكان، 

وعادوا بألبوم من الصُّوَر، 

ونُفورٍ له رائِحَةٌ قَويَّةٌ من مَكانِهم القديم... 

إلَّا أَنَّني -كأحمقَ، فاتَته رُوحُ المغامَرَةِ- 

آثَرتُ السَّلامَةَ، 

ودَوَّنتُ دفترًا كبيرًا من «اللَّتِّ والعَجنِ» 

لأرواحٍ تَقليديَّةٍ عن تلك الجزيرةِ المعزولَةِ، 

لِدرجَةِ أنَّني -يا للخسارة- دَوَّنتُ مُتعَتي، 

وفَقدتُ سِحرًا لاكتشافٍ قد يُرافِقُني 

لو أَلقيتُ مِزاجًا مُطابِقًا للمُواصفاتِ 

لَيسَ يَخصُّني في شيءٍ، 

وكُنتُ نَفسي بِكلِّ أريحيَّةٍ 

وذَهبتُ إلى مكانٍ آخر خالِيًا من الطُّمَأنينَةِ... 

إلى متى سأظلُّ ناظِرًا لِشواطئَ وَهميَّةٍ 

بداخِلِ الصُّورِ والأَفكارِ، كَأيِّ طائِرٍ مُغرِّدٍ، 

ولَيسَ في حَوْزَتي سِوى صَوتٍ نَكِرَةٍ مَكتومٍ، 

لماذا لا أَنظرُ إلى الحَياةِ 

وأُجرِّبُها بنفس القَذارَةِ الَّتي في الموت؟ 

ألم تَكُنْ رُوحي لِثوانٍ سِردابًا لمنْظَرِه العَكِرِ 

في مياهٍ ضَحْلَةٍ على الطَّريقِ الزِّراعي بين مدينتَيْن صغيرَتَيْن، 

ونَجوتُ من بين يدَيْه مُصادَفَةً، وبلا مُواصَفاتٍ لِكتالوج؛ 

فما أنا وأَنتُما أيضًا إلَّا مِثقالَ ذَرَّةٍ لاحترامِ مَجدِ الإنسانِ، 

في هذا الشَّرقِ الحزينِ، 

بلا موسيقى تُنادينا من الضِّفَّة الأخرى: 

اطمئنُّوا، حَتمًا سَنَنجو، 

وبلا فِعلٍ سِوى للرِّعاعِ 

الَّذين يُلقون الفُتاتَ فوق موائِدِنا السَّماويَّة.. 

لأخاطِبَكُما بِكلِّ صَراحَةٍ: 

لَسنا سِوى أَبناءٍ لِتلك البَجَعَةِ السَّوداء 

الَّتي تُحاطُ جِهاتُها الأَربَعُ بِبُحَيرَةٍ راكِدَةٍ 

وخالِيَةٍ من الصَّلواتِ الخَمْسِ لِدوائِرِ الشَّيطانِ.


29 

أَدورُ حولَ المعاني، 

وأُمرِّرُها كالألماسِ المطفيِّ 

في تلك الأوقاتِ التي أضيع فيها بين زمَنَيْن... 

كأنَّني ضائِعٌ حتَّى من نَفْسي. 

هل أَتمهَّلُ في النَّومِ ولا أذهب إليه؟ 

خاصَمَت عيناي مَنظَرَه الطَّيِّبَ 

وهو قادِمٌ كَملاكٍ بِجَناحَيْن 

لِيمسَحَ عن رأسي وَجَعَ الحَياةِ، 

وأَصيرَ شَفَّافًا أَتَسلَّى في سَهراتِ كوستا كافيه 

برؤيتِه مُجسَّدًا 

في سَمْتِ جلبابٍ لِرجُلٍ في سِنِّ الخمسين.. 

أَظنُّه عامِلًا بلا بيتٍ، 

وغَرِقَ بداخِلِ المكانِ لِيَنْسى، 

ها هو أَمامي يَعتدِلُ فَجأةً 

ويَتذكَّرُ بِأنَّ لَه صَوْتًا، 

وضَروريٌّ أَنْ يُطَمْئِنَ نَفسَه بالكلام مَعي عَن: 

كَمْ السَّاعَة؟ هل أَذَّن الفَجرُ؟ هَل الجَوُّ مَكتومٌ هُنا؟... 

ثم يَسكُتُ الكَلامُ بَينَنا. 

هل أتمهَّل في النَّومِ 

ولَيسَ في نِيَّتي أيُّ ذَرَّةٍ لِجنونٍ 

كَأنْ أُهاتِفَ وردةَ التَّخييلِ الذَّاتيِّ، وسيميوطيقاي العجيبَةِ، 

الَّتي بودِّي أن أقضم أحلامَها؛ 

فَمُنذُ مُدَّةٍ قَصيرةٍ -قد لا تَتجاوَزُ العامَيْن- 

نَويتُ بأن أَقْلِبَ حياتي رأسًا على عَقِب.. 

لم يَعُد لي رائِحَةٌ، وصارَ لَوني باهِتًا، 

ودُرتُ حَولَ نِساءٍ مريضات 

بودِّهِنَّ خَدشُ مُسافِرين 

في مَحطَّةِ سِكَكِ حَديدِ مِصرَ، يتحرَّكون بِداخلي 

كأنَّني حُلمٌ لأَعزَّائي الموتى، يَسيرُ على قَدمَيْن، 

ولا يَحِقُّ لي الخُروجُ من فوق القُضبان، 

ثمَّ شاءَت الأَقدارُ بأن أَشوطَ الكُرَةَ 

وأَتحرَّكَ كالمفلِسينَ 

من بَنسيون لكافيه، 

ومن كافيه إلى شارِعٍ، 

ومن شارِعٍ إلى غُرفَةِ سُكنَى جَماعِيَّةٍ؛ 

لأرى روحي طافِيَةً وكأنَّها مَولودَةٌ للتَّوِّ 

بين عَينَيْ امرأةٍ وَحيدةٍ هي: 

وَردةُ التَّخييل الذَّاتي في لَوحة عبد الهادي الجزار المجذوب... 

أَودُّ لو قُلتُ اسمَها كامِلًا 

لأَحْتَمي به كَتعويذَةٍ أَنيسَةٍ بين مَرحلَتَيْن: 

في الأولى 

نسيتُ بفَضلِ نَفسِ المرأةِ مآسي عاديَّةً، 

بينما في الثانية 

سَقَطَت هي في جَوفي، 

وظَلَّت تَسبحُ بِداخلِ جِسمي 

من دون أن أفعلَ أيَّ شيءٍ لِقتلِ الوَهم؛ 

لِكوني أُومِنُ كَمْ أنا حزينٌ 

بِنَفْسِ الدَّرَجَة الَّتي أُومِنُ بها بأنَّ العالَم قبيحٌ، 

ويَلزَمُه المجازُ في بداية فَصلِ البَردِ... 

الآن، أنا أَتعافى مِن المرحَلَتَيْن، 

وليس لديَّ خُطَّةٌ عن الغَدِ. 

هل سأظَلُّ أَحكي وأُدوِّنُ هُراءَ أيَّامي؟ 

مَن سَيَحمي ظَهري،

ومتى سَيكونُ لي يدانِ شَريفتانِ لِجَنْيِ النُّقود؟ 

ففي قَلبِ المدينة الصَّديقَةِ 

شُروطُ العَمَلِ غَيرُ مُطابِقَةٍ لمواصَفاتِ مَن هُم على شاكِلَتي... 

إلى أَينَ أَهرُب: إنَّني عَلى وَشكِ الانتحارِ 

كما حَدثَ لي في العام أَلفٍ وتسعمئةٍ واثنين وتسعين، 

وصارَت الفِكرَةُ مجرَّدَ خاطِرٍ لخَلاصٍ مُشوَّشٍ؛ 

ففي ذلك التَّوقيتِ التَحقتُ بِسلاحِ الإشارةِ كضابِط احتياط، 

يَكتُب الشِّعرَ الموزونَ. 

أمَّا اليومَ، في العام ألفين وثلاثة عشر، 

فأنا لا شيءَ؛ 

لكَوْني عاجِزًا عن الالتحاق حتَّى بعرَبَةٍ لقطار، 

ولا يزال لَديَّ عينان مُغمَضتان كالقِطَطِ الصَّغيرَةِ.




30

لا أعرِفُ لِمَ كَتبَ صَديقٌ ذو هُويَتَيْن 

قائِمَةً لي بأسماءِ عَشيقاتِه، 

وبأنَّهنَّ وَقَعنَ في غَرامِه بِسبَب النَّمَش 

الَّذي مُلِئَ به وَجهٌ لِعرَبيٍّ يَقرأُ عَن الصَّحراءِ، وليلى خالد*.. 

بِنفسِ الإيقاعِ الَّذي جاءَ به لِتعلُّمِ شَيءٍ 

عن رائِحَةِ الحُبِّ الأَوَّل 

من رحلَةٍ مع امرَأةٍ في نيل أسوان، هَجَرَته وهَجَرَها، 

ثمَّ نالَت منه امرَأةٌ أُخرى، لم تَهجُرْه بَعدُ ولم يَهجُرْها؛ 

بِسبَبِ ذَلِكَ القَارَبِ الَّذي تَمنَحُه إيَّاه 

في قاعاتِ الانتظارِ لِوداعٍ قَصيرٍ، 

وبَينَ المغامَرَتَيْن لَضَمَ إِبرَتَه في خَيطِ صَديقَةٍ تَتكلَّمُ لُغتَه، 

وشَارَكَته تَبادُلَ الرَّسائِلِ عن الطَّقسِ والنِّضال، 

كُلٌّ مِن مَكانِه في عالَمٍ إلكترونيٍّ مُوازٍ؛ 

هَل بودِّه إخباري عن دُروس الحبِّ الطَّارِئِ للمُسنِّين؛ 

لأكونَ مِثلَه رَزينًا 

ولا أُفشي سِرِّي لِنساءٍ أَفرَطتُ في حُبِّهِنَّ بلا مُبرِّرٍ.. 

لا لِشيءٍ، سِوى ظَنِّي الخاطِئ 

بأنَّ سبينوزا** لا يزالُ شاعِرًا كبيرًا، ولا يَهابُ النِّساءَ الجَميلات؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ليلى خالد: مناضلة فلسطينية.

** سبينوزا: فيلسوف يرى أن الإنسان جزء من الطبيعة، وليس مملكة للنفس قابعة داخل مملكة الجسد.



31


عُدتُ في مَوكبٍ للمُنشِدين 

بِرُفقَةِ رائِحةٍ لِخُبزٍ صابِحٍ، وعِطرٍ لامرأةٍ.. 

يَتناوَبان احتلالَ أنفي، ولا يَختَلِطان. 

حَيَّرني الأَمرُ: مَرَّةً لِخبزٍ أَظنُّه الفينو، 

مرَّةً لِعطرٍ أظنُّه يُودًا طَيِّبَ الرَّائِحَةِ لامرأةٍ 

في زيِّ مدينةِ البَحر.. 

لماذا لا أَعجِنُهما معًا 

بِنَفسِ الطَّريقَةِ الَّتي تَسْلِتُ لي امرأةٌ خَيطَها الملوَّنَ 

لأَلضُمَ إبرتي في بَتلات زَهرَتِها الَّتي لِعَبَّادِ الشَّمس؟ 

ها هي أمامَ ناظِريَّ تبدو مُختصَرَةً في وَشْمٍ وشَيْئُها عارٍ.. 

وثَمَّة وَشمٌ آخَرُ مُتخيَّلٌ لِرائِحَتَيْن على وَشكِ التَّبخُّرِ 

وَسطَ جُمهورٍ من المراهقين، أَدْماهُم السُّكْرُ الجَماعيُّ 

باتِّجاه بُكاءٍ لِصوتٍ مُزدَحِمٍ بالمسافرين 

لِيَدَيَّ وعَينيَّ وقَدميَّ، ورَأسي 

التي تَحتَضِنُ صورَةً إيروتيكيَّةً 

لهذه المرأةِ الماجِنَة، العَظيمَةِ، البَلهَاء، 

ومعشوقتي المثقَّفَةِ الحَسناءِ.



أدور حول المعاني مقاطع من "وردة التخييل الذاتي " أشرف يوسف Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 09 فبراير Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.