قطّة الساعة العاشرة ليلا بقلم هيثم الأمين تونس



-مرحبا سيّد غالي
تقولها زهرة بمجرد دخولها للغرفة ثمّ تردف و هي تفتح الستائر
-
كيف حالك اليوم؟
-...
-
ممممم، يبدو أنّ مزاجك ليس جيّدا!
فيجيب السيّد غالي بصوته المبحوح و بتشنّج واضح:
-
ليس مهما و كفّي عن الثرثرة
زهرة، الثلاثينية، التي تخدم في بيت السيد غالي منذ عشرة سنوات، تعلم جيّدا طبائع السيّد و لا تزعجها، في الغالب، تصرفاته.
يتمدد السيد غالي، العجوز الستّينيّ على سريره، بينما زهرة توضّب الغرفة، تحمل أدباش السيّد المرميّة هنا و هناك، ترتب المكب و الكرسيّ المرميّ وسط الغرفة، تفرغ منفضة السجائر و العلبة الفارغة في كيس بلاستيكي و طبعا هي لا تنسى أن تطرح عليه نفس السؤال الصّباحي
-
ماذا تريد كفطور سيّدي؟
-...
-
الساعة العاشرة الآن سيّدي، حتما أنت لا تنوي النوم أكثر؟!
-
و لم يا شاطرة لا أنام أكثر؟
سألها غالي بنبرة شبه ساخرة و هو يشعل سيجارته الأولى لهذا اليوم.
-
تبااااا، ألم يخبرك الطبيب أن لا تدخّن على جوف فارغ؟!!! لم أنت دائم الإساءة لنفسك؟؟؟؟ (بنبرة غاضبة)
ينفث السيد غالي دخان السيجارة و يتابع انتشاره في الغرفة قبل أن ينظر مباشرة في وجه زهرة و يحدّثها بنبرة غير مبالية بغضبها
-
حسنا، لقد فعلت و دخّنت على جوف فارغ، فماذا ستفعلين، هل ستشتكينني لأبنائي الأربعة الذين لم يزوروني منذ ثلاثة أشهر أم ستشتكينني لقبر زوجتي؟!
ثمّ ابتسم ابتسامة ساخرة و أردف
-
أنت تعلمين يا زهرة أنّ أبنائي لا يزورونني إلّا إذا فرغت جيوبهم، تبا لهم، سأحرمهم من الميراث
يقولها و ينفجر ضاحكا و تكتفي زهرة بالصمت.
-
زهرة، أريد منك خدمة
-
تفضّل سيدي
-
أمازال زوجك يتعاطى "الزطلة"؟
-
نعم (قالتها ببؤس واضح)
-
رااااااائع، أخبريه أن يحضر لي بعضا منها
مرتعبة مما سمعت
-
أنت حتما تمزح سيّدي؟!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
-
لا (أجاب غالي بهدوء تام)
-
عشرون دقيقة و يكون فطورك جاهزا سيّدي
قالت زهرة و هي تغادر الغرفة.
ليلة البارحة كانت ثقيلة جدا على السيد غالي. فبعد أن غادرت زهرة البيت على الساعة الثامنة ليلا، دخل غرفة نومه، حيث سريره و مكتبه الصغير، كان متحمّسا جدا لكتابة قصّة جديدة و لكنّ الكلمات خذلته و هذا جعله يشعر بضيق شديد.
و عند تمام الساعة العاشرة ليلا، سمع طرقا خفيفا على باب الغرفة! و هذا أربكه، خاصّة أن لا أحد غيره بالبيت! ثمّ فُتح الباب قليلا، مما جعل السيد غالي يصاب بنوبة ذعر و يصرخ
-
من هنا؟
-...
-
من هنااااااااااااا؟
ليسمع مواء قطّة، في البداية، ثمّ دلفت القطة الى الغرفة. و رغم أنّه لم يفهم كيف دخلت القطة للبيت و لا كيف تمكنت من فتح باب الغرفة إلّا أنّ كون الزائر مجرّد قطة أراحه قليلا.
كانت تبدو قطّة أليفة و معتادة على العيش داخل المنازل، قطة بيضاء عليها بقع سوداء مختلفة الحجم. و كأنها تعرف الغرفة جيدا، قفزة صغيرة منها و كانت على حافة السرير المواجهة للمكتب الذي يجلس خلفه السيد غالي.
لحظات قليلة و كاد السيد غالي أن يصرخ أو أن بركض الى خارج الغرفة و لكنّه كان عاجزا تماما عن أيّ فعل!
فالتي كانت للتو قطة، صارت امرأة أربعينية تجلس على حافّة السّرير! امرأة شاحبة و نحيلة بعينين جاحظتين حولهما هالتان سوداوتان، شعر كستنائيّ منكوش و حاجبان كثّان و شامة كبيرة على خدّها الأيسر و تتعطّر بعطر نافذ و غريب. في الحقيقة، رغم كلّ شيء، كانت ملامحها توحي بأنّها كانت امرأة جميلة ذات يوم. ربّما لاحظت المرأة رعب السيد غالي و اضطرابه الشديد و لهذا بادرت بالحديث بصوت هادئ
-
لا تخف غالي، فأنا أنت أو الأصح، أنا نسختك الأنثوية أو لنقل جزؤك الأنثوي. أنظر جيّدا يا عزيزي، أنا أشبهك تقريبا، أنظر لأنفي الطويل المحدّب و لهذه الشامة الكبيرة على خدّي الأيسر، إنّهما تماما كما عندك
-
و.. و.. لك..ـن ما..ما تر...ردين.. منّي؟
-
اهدأ غالي، أنا لست هنا لأؤذيك يا عزيزي، فأنا إن آذيتك فسأؤذي نفسي
-
فلم أنت هنا؟ ماذا تريدين منّي و كيف دخلت؟
تقف المرأة الأربعينية و تتقدّم بعض الخطوات و تقول
-
أنا غالية، أنا جزؤك الأنثوي، في الحقيقة أنا دائما معك و لكن...
يقاطعها السيد غالي
-
أرجوووووووك لا تقتربي منّي أكثر، حدّثيني من بعيد
تبتسم غالية ابتسامة خفيفة و تقول
-
نعم، أنت دائما هكذا غالي، دائما تحاول إلغائي، تحاول دائما قتلي و ابعادي عن شخصيّتك. أنا لا ألومك يا عزيزي ففي النهاية أنت رجل شرقي يرفض أن يبدو ضعيفا، يرفض أن يصرّح بمشاعره الجميلة لمن يحب. أتذكر كيف كنت تعامل زوجتك يا غالي؟! مسكينة، كانت تظنّ أنّ زواجها بشاعر و كاتب قصة مشهور سيجعلها سعيدة، كانت تظنّ أنّك ستعطيها الكثير من الرومنسية و من الحنان كما تصف ذلك في قصائد و قصص الحب التي تكتبها و لكن لم تحصل المسكينة إلّا
يقاطعها السيد غالي بنبرة غاضبة
-
لقد أعطيتها ما تستحق، لم أبخل عليها بمالي و أنجبت منها أطفالنا، ثمّ إنّها تعلم جيدا أنّي تزوّجتها مرغما و مع هذا عاملتها بطريقة جـ..
-
أصمت! أنت مجرّد رجل أناني و متعجرف، تعطي كلّ حبّك و اهتمامك لعشيقاتك و تعطي النزر القليل منهما لزوجتك منية. أتعلم لم أنا قبيحة هكذا؟
قالت و هي تقف الى جواره
-...
-
أنا قبيحة لأنّك كنت تشوّهني بنزقك و مازلت تفعل
-
أنا؟!
-
نعم، أنت يا غالي، أنظر لنفسك في المرآة، أنظر كيف صرت، كلّ شيء فيك مهمل، هل يمكنك أن تخبرني متى كانت آخر مرّة سمعت فيها موسيقى عذبة أو شاهدت حديقة جميلة؟
-
لا أريد، قالها بحزم، ثم لا شأن لك بي، أريد البقاء وحدي و الموت وحدي
تقاطعه غالية بقهقهة عالية
-
غالي، يا عزيزي المكابر، أنت كلّ شأني، الحب الصادق، الجمال، الفرح، الاعتناء بالاخرين وووو كلّ هذه الأمور تجعلني جميلة و أنا أريد أن أكون جميلة، و بصوت غاضب أردف، أريد أن أكون جميلة، هل تفهم؟!!!!!
حينها بدت مخيفة جدا للسيد غالي، خاصة أنّها تقف بجانبه تماما و هو مازال عاجزا عن كلّ أنواع الحركة، و طبعا لم يكن يرغب في الموت الآن على يد شيء لا يفهمه، اكتفى بالتحديق فيها و على ملامحه كلّ الرجاءات بالعطف و الرحمة.
نسي كم مرّ من الوقت و هما يحدّقان ببعضهما حتّى شعر ببرد يتسرّب اليه ليستيقظ فزعا يجد نفسه قد نام على مكتبه. كان سعيدا جدا لأنّه كان مجرّد كابوس و لكن الباب الموارب و هو المتأكّد أنّه أحكم اغلاقه و بقايا من عطر تلك المرأة جعله يفزع من جديد ليركض الى سريره و يسقط الكرسي أرضا و أدباشه.
يدخّن الآن السيد غالي سيجارته الثالثة و هو يفكر في كل ما حدث ليلة البارحة فتقطع عليه زهرة تفكيره
-
فطورك جاهز سيّد غالي
فيجيبها
-
زهرة هل تعرفين امرأة تصلح زوجة لي؟ أريد أن أتزوّج
.
قطّة الساعة العاشرة ليلا بقلم هيثم الأمين تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 08 فبراير Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.