قراءة في نص سيرة يوم عادي للشاعر التونسي هيثم الأمين

 هذا النص الذي كتبه الشاعر التونسي هيثم الأمين تحت عنوان*سيرة يوم عادي* يعكس نفساً حداثياً ممزوجاً بشعور من العبثية والاغتراب الإنساني حيث يتناول الحياة اليومية من منظور فلسفي وشعري مميز. هناك عدة محاور يمكن تناولها لتحليل النص ومن خلال استكشافها سنحاول الوصول إلى التأثيرات الشعرية التي ربما تأثر بها الكاتب.


1-السياق الوجودي والاغتراب:

النص يعبر عن تجربة ذاتية معقدة حيث نجد أن المتحدث غير مكترث بالعالم من حوله. الأمواج، المسافرون، المطر، وحتى الرجل الجالس قبالته كلها تفقد معانيها أمام حالة من اللااكتراث. هذه الفكرة تتماشى مع التيار الوجودي، الذي غالباً ما يظهر في الشعر الحداثي. الوجودية تتمحور حول الفردية والعبثية، وتبدو هنا بشكل واضح في تفكيك العالم المألوف وتحويله إلى عناصر بلا معنى في السياق الشخصي للمتحدث.


2-التكرار والمفارقات:

النص مليء بالتكرار، سواء في فكرة أن الشخصيات أو الأحداث "لا تهمه" أو في الأوامر التي يوجهها للمرأة أو للعناصر المحيطة به. هذه التقنية توحي بنوع من الاستمرارية العبثية حيث يبدو المتحدث عالقاً في حلقة مفرغة من المحاولات لفهم أو التحكم في محيطه دون جدوى. تكرار الأوامر مثل "أنا آمرك" يمنح النص قوة وإيقاعاً خاصاً، لكنه في الوقت نفسه يعكس ضعف السيطرة أو حتى الاستسلام أمام العشوائية والعبثية في الحياة اليومية.


3-التأثير الرمزي:

هناك كثير من الرموز في النص، بدءاً من الكلب الذي ينبح إلى النافذة التي تلعب دوراً مركزياً في النص، سواء في ربط الشخصيات أو في تعبيرها عن الرغبات المكبوتة. هذه الرموز تضفي عمقاً للتجربة الإنسانية وتعزز من إحساس العزلة والغرابة. الكلب، مثلاً، قد يرمز إلى التهديد أو الفوضى الداخلية التي تشعر بها الشخصيات، بينما النافذة تفتح المجال للتواصل والتفاعل غير المباشر بين المتحدث والمرأة.


4-اللغة الشعرية:

اللغة في النص تتميز بطابعها المجازي والعميق. استخدام التعبيرات المجازية مثل "أحمل على ظهري وحدتي البدينة" أو "تلك المرأة التي كانت تنشر ملابس زوجها الداخلية" يمنح النص بعداً نفسياً عميقاً. هذه اللغة الشعرية تعكس تفكيراً متأملاً وعلاقة معقدة مع العالم الخارجي. الشخصيات والأحداث هنا ليست مجرد وقائع، بل رموز وأفكار داخلية تعكس حالة من العزلة أو حتى الانفصال عن الواقع.


5-التأثيرات الشعرية:

من حيث التأثر، يمكن القول أن النص متأثر بعدة تيارات شعرية حديثة، لكن أبرزها تأثير *تيار الشعراء السورياليين*و*الشعراء الوجوديين*. على سبيل المثال نجد تشابهاً مع أعمال *ألبير كامو*من حيث تناول فكرة العبثية، والعالم الخالي من المعنى. من حيث الأسلوب الشعري يمكن أن نرى تأثراً بالشاعر الفلسطيني *محمود درويش*في استحضار التكرار والمفارقات وفي توظيف الرمزية بطريقة دقيقة تثير التساؤل. أيضًا *نزار قباني*قد يكون له تأثير، خصوصاً في تلك المقاطع التي تتحدث عن العلاقات الإنسانية والرغبات المكبوتة بلغة مليئة بالرومانسية والأسئلة الوجودية.


كذلك، هناك لمسة من *تأثر بالشعراء الفرنسيين مثل *بول إيلوار*و*أندريه بريتون*الذين يركزون على تصوير اللاوعي وتفكيك الواقع وبناء عالم شعري مليء بالرموز والخيال المتحرر من القيود العقلية التقليدية.


6-الختام:

النص يوحي بالكثير من التأمل في المعاني الخفية للحياة، الحب، العزلة، والذكريات. ينجح هيثم الأمين في تقديم تجربة شعرية غنية بالتفاصيل والعواطف المكبوتة، ويتعامل مع عناصر الحياة اليومية بذكاء شعري يجعلنا نتوقف عند تفاصيل تبدو في ظاهرها عادية لكنها تحمل معانٍ أعمق.


هذا النص بالتأكيد يستحق التأمل والتفاعل معه، إذ يعكس عمقاً إنسانياً وشعوراً بالاغتراب الذي نشعر به جميعاً في لحظات مختلفة من حياتنا. 


سيرة يوم عادي


الموجة التي قَدِمَتْ إلى الشّاطئ


لتستلقي على رماله و ترتاح


بعد أن أنهت عملها في إغراق المراكب؛


لا تهمّني في شيء..


المسافرون الذين سَقَطَتْ عنهم وجوههم


وفقدوا حقائبهم في محطّات أخرى


ثمّ لم يصلوا؛


لا يهمّونني في شيء..


المطر الذي وعد، للمرّة الثّالثة، بأن يهطُل


ثمّ انشغل بترميم سُحُب قديمة


فنسي أن يهطلْ؛


لا يهمّني في شيء..


وهذا الرّجل الذي يجلس قُبالتي


دون أن يكلّمني


عن غلاء الأسعار،


عن أبنائه الذين كان سينجبهم


لو أنّه كان واضحا كعبارات الوداع


وعن النّدبة أسفل ظهره


التي كانت، قبل أربعين عاما، جرحا يشير إلى طفولته و يبتسم.


هذا الرّجل لم يكلّمني


كما يفعل غريبان يحاولان ايجاد منفذ في جدار الصّمت


ليعبرا إلى وقت أقلّ مللا


ولم يسألني عن اسم المرأة التي


تنشر ملابس زوجها الداخليّة، كلّ صباح، في الشرفة المقابلة لنافذتي


و كم أُقَدِّرُ عدد القبلات


التي ستجعل امرأة، كهاته، تفقدُ بوصلتها التي


تشير لقُبلة أولى طبعها،


رجل خبير،


على شفتيها


ثمّ صار نجما بعيدا؟!!


هذا الرّجل الذي يجلس قبالتي،


أبضا،


لا يهمّني...


*


أرجوكِ.. اهدئي قليلا؛


اهدئي ولا تمزّقي الأرصفة التي جمعتني


بخطوات


لم تخذل وقوفي أمام واجهات الحكايات..


أرجوك.. لا تعبثي بدواليب ذاكرتي


حتّى لا تطير أسراب الظّلال فتَترُك أسماءها للبرد!


أرجوك.. لا تُخرجي جذعك من النّافذة


حتّى لا تكتشف امرأة الشُّرفة جرأة عيوننا!


*


لا كلب في الغرفة، لا كلب في البيت


ولكنّي أسمع الكثير من النّباح القريب جدّا!


الرّجل الذي يجلس قبالتي


كان، أيضا، يسمع النّباح


وهي التي كانت تحاول رسم وجهي كما لو أنّه سعيد،


على الجدار،


أيضا، سمعت النّباح!


هذا النّباح كان، أبضا، يزعج قطّ جاري السّتّيني الوحيد


فأصابته هيستريا من المواء!


*


أنا آمُرُكِ.. لا تُغلقي النّافذة على أصابع الرّيح


حتّى لا تعوي العاصفة في حقول القمح!


أنا آمُرُكِ.. لا تعبثي بالمزهريّة الفارغة


فقد تنمو، في فمها، باقة قصائد ورديّة


وأصير شاعرا !


أنا آمُرُكِ.. لا تتنفّسي في وجهي؛


أنا آمُرُكِ.. لا تجلسي على ركبتَيْ


حتّى لا تغار منك حبيبتي


فتُغلقُ في وجهي وجهها الذي أرى من ورائه الحياة بطَعْم حلوى غزل البنات!


*


يفرك الرّجل الذي يجلس قبالتي عينه اليسرى،


يحكّ شعره بلطف مصطنع


ويبحث عن شيء ما في جيوبه


فلا يجد إلّا مناديل مبلّلة تلفّ أصابع ورّمتها النّهايات!


وهذا النّباح صار أقوى،


صار أقرب


وصار الكلبُ كلابا كثيرة!


بينما أنا


كنت أحاول اخفاء ارتباكي عن الرّجل الذي يجلس قبالتي


وعنها.. وهي تحاول فتح صندوق قديم


ربّما.. كانت تظنّ أنّها ستجد فيه صورا أو رسائل


أو لغة كنت أكتب بها حين كان يشدّني كلّ شيء إلى كلّ شيء!


*


أربعة عقود و نصف وأنت تشاركينني كلّ شيء!


شاركتني ألعابي وسرقاتي الصّغيرة حين كنت طفلا..


وكلّما أحببت فتاة


كنت تصفّقين لي


كلّما عرّيتُ إحداهنّ في سرير ملاءاته أحلامي


ووحدكِ أنتِ


من أخذتني إلى مدن الشّعر


وتوّهتني هناك


ثمّ وقفتِ، أعلى اللّغة، تضحكين من أحزاني


وما زلتِ، منذ أربعين عاما، تقاسمينني نفس الفراش


ولا تكترثين لبكائي!


*


أقفُ


ويقف الرّجل الذي كان يجلس قبالتي!


أحدّق في المرآة الكبيرة


و في وجهه


فيحدّق.. في المرآة الكبيرة


وفي وجهي!


أُدير له ظهري


فيدير لي ظهره!


أحمل على ظهري وحدتي البدينة


التي كانت تعبث بدواليب ذاكرتي


وكادت تفضح جرأة عيوننا و هي تحاول إخراج جذعها من النّافذة؛


وحدتي التي كادت أن تفتح الصّندوق القديم


وكانت تغار منها حبيبتي


لأنّها شاهدت معي كلّ حبيباتي عرايا...


ويحمل.. هو


وحدته على ظهره


ثمّ يغادر الغرفة


فأُغادر الغرفة


و كلاب تنبح


تنطّ من فمي،


من عينَيّ،


من أذنيّ


ومن صدرها المكشوف


تلك المرأة التي كانت تنشر ملابس زوجها الدّاخليّة، في الشّرفة


ومازالت تقف هناك...



قراءة في نص سيرة يوم عادي للشاعر التونسي هيثم الأمين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 27 سبتمبر Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.