مقال في في ماهية الروح...سليم حسني / تونس
في ماهية الروح.
" وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي" (الحجر، 29)
الجملة جسدٌ أعضاؤها كلماتٌ، يتوخّى الناظم تلاؤمها فيكتمل خلقا أو يلقي الكلام على عواهنه فتتنافر ألفاظه وتتشوّه معانيه. وأجود ما قيل لفظا وأبلغه نظما ما نتلوه من القرآن، تتوافق كلماته وتتناغمُ صوتا ومعنى فيستقيمُ الكلامُ نظما لا نفور فيه ولا نتوء حتّى تعيَ النفس معانيه قبل ألفاظه، من أجل ذلك استرعت اهتمامنا آية في ظاهرها ألفاظ تباعدت معانيها وفي باطنها تساوقا وانسجاما. وعليه فإننا نبتغي فيما نكتب أن ننظر في علاقة الروح التي هي من أمر ربنا بنظيماتها داخل الآية علّنا نحظى شيئا من معانيها مستقصين بذلك بعض كوامن القول ونزر جوامعه.
يُحدّثنا اللّهُ عن حين تسوية آدام جسدا طينيّا ينتظرُ الحياةَ، فآتى أسبابها بأن نفخ فيه أي في جسده، من روحه، و"مِن " تبعيضيّة أي من بعض روحه، فانتفض حيّا حياةً ما كانت لتكون لولا بعض الروح التي ذكرنا، لماذا ليست كلّ الروح وإنّما بعضا؟ وأي شيء هي لتشحن بالحياة؟ دليلُ حياته لغةٌ سمعها فأدركها فنطق بها " وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلسَّمْعَ وَٱلْأَبْصَٰرَ وَٱلْأَفْـِٔدَةَ " (السجدة،9) سَمْع به يُدرك الأصوات وبصر به يميّز الألوان والأشكال والأشخاص وفؤادُ به يعقل ويحسّ فيميّز بين الحق والباطل والخير والشرّ، وسبيل ذلك كلّه لغة بسُجفها يُدرَك الوجود.
فالله قد بثّ في جسد الإنسان تلك الجثّة الهامدة والآلة الجامدة شيئا من روحه؟ فتحرّك بعد جمود وتكلّم بعد بكم وسمع بعد صمم ونظر بعد شخوص وأدرك بعد عُطول فكانَ .
ذاك البعض مشحون بالكفايات اللازمة للحياة ومزوّدة بنظام وبرمجةٍ، ما إن ذاعت فيه حتّى تفعّل إنسانا يُدركُ بحواسه، يعبّر عن قصده وجاهز للتعلّم حتّى يعيَ الوجود ويحيط بأسمائه وعلاماته وأسراره" وعلّم آدم الأسماء كلّها"( البقرة،31) ليتمّ له بذلك يُسرُ الاتّصال والتواصل.
ولأنّ كلّ ما يعيش به الإنسان هو بعض من روحه كان له من البصر بعضه ومن السمع بعضه ومن الفؤاد بعضه ومن كل شيء مقدار " إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر"( القمر،49) وذاك من نعم الله علينا إذ لو قال ونفخت فيه روحي دون تبعيض لكان للإنسان بصر خارق يخرق الحُجُب وسمع ثاقب يتجاوز المسافات وفؤاد حصيف لا يعرف الزلل، وذاك ممّا يفوق قدرة الإنسان ويكلّفه ما لا طاقة له به على هذه البسيطة، فحياته كمالها في نقصانها تقتضي النقص لتُستساغ وتُعاش.
ومهما يكن من أمر، فحياة الإنسان هي تعالق روح لطيفة بكثيفة طينيّة ثخينة دون امتزاج، إذ الروح قد نُسبت لله تعظيما وتشريفا لا جزءا منه، فكانت عليّة حراما خالدة من عالم السماء وأمّا الجسد فقد قدّ من حمإ مسنون فكان دونيا ناقصا زائلا من عالم الأرض، ومن ثمّة انبثقت ثنائيات المقدّس والمدنّس والسمائيّ والأرضيّ وتأرجح الإنسان بين الحيوانيّة إن لبّ للجسد ما يريد والملائكيّة إن أتعب الجسدَ في مراد النفوس.
نظرنا في بعض الروح فعلمنا أنّ بها حياة المرء لعظم ما رصّت به وشحنت. ولازنا نبحث عن أي شيء هو الروح فطلبنا ذلك في نظيماتها إذ لا يُنظم في العقد إلاّ ما كان شبيهَه والقرينُ دليل.
فالروح أفرغت في الجسد بفعل النفخ، والنفخ نفث إلاّ أنّه أشدّ وأقوى لشدة الخاء وفخامتها واستعمل النفخ دون النفث لقوة المنفوخ وعظمته ممّا لا يستقيم معه النفث للطفه إذ "قوة اللفظ لقوة المعنى" ( ابن جني، الخصائص، 258/3) وقد بيّنّا ذاك سالفا، فعلٌ مفعوله معلوم إذ لا يُطلق إلاّ مع الريح أو مع ما كان في معناه كالهواء والنّفس، هكذا سمع عن العرب وتداولته القواميس (لسان العرب، 63/3)، لفظ يدل على إجراء ريح في الشيء. ولمّا كان ذلك كذلك تأمّلنا داعيَ إجرائه في الآية مع الروح مفعولا وتنزيلها منزلة الريح. تتبّعنا أسباب ذلك فانكشفت لنا سماتٌ جامعة أهمّها لطف ذاتَيْهما كلاهما دقيق لطيف خفيّ متحرّك لا تدركه الأبصار إلاّ بغيره، فالريح علاماته كثيرة منها تحرّك الأشجار والروح دلائلها مختلفة منها نطق اللسان ولعلّه من قبيل نقل اللغة للواقع بنظامه وتصوير مناويله وحيثياته أن تعبّر عن كليهما بالمادة ذاتها بل وإلى ذلك يصدر مرادفاهما عن الأصول عينها.
ء- الروح [ر و ح] = النّفْسُ[ ن ف س ]
ب- الريح[ر و ح] = النَّفَسُ[ ن ف س]
فإذا كانت علّة تقارب الألفاظ مردودةً لتقارب المعاني فبالقياس توافق الألفاظ معلول توافق المعاني واشتراكها في كثير من المعينمات والأوّلِياتِ ولسنا ننكر بذلك المشترك اللفظيّpolysemy علاقة معجميّةً.
في (ء)" الروح والنّفْس واحد"(لسان العرب، 462/2) والنَّفَس "خروج الريح من الأَنف والفم" (نفسه، 462/2) وبذلك فالنّفَس ريح في وضع مخصوص متعلّق بالجسد بل هو الروح التي يتنفّسها الإنسان فاشتقّت منها. وما الروح إلاّ نَفْسٌ بها حياة الإنسان إذ فيه نُفخت والريحُ به أيضا حياة المرء يتنفّسه.
وعليه فالروح ريحٌ تجري في الجسد فضاءً لها، لا تدركها لدقتها الأبصار ولا تبلغها للُطفها الأذهان، ولكنّ لها تجلياتٍ تُعرف من خلالها إذ هي محمول لا يُدرك إلا في جوهر سواه شأن الألوان لا توجد إلا في غيرها فنقول: جدار أبيض، بياض ما كان للعين إبصاره لولا الجدار.
ولأنّ الروح ريح نظرنا في معدنها وجنس طيبها، كيف ندركُ زكيّها من خبيثها؟ وكيف تضوع في آلتها الجسد؟ فمن همّه أن يبتليَ معدن نفسِه ويظهر على طبعها فلينظر لسانه وسمعه وبصره إذ هي قنوات منها تذيع رائحتها ووتتضوّعُ وتتجلى في الملفوظ والمسموع والمرئي فيتمحّض طيبها من نتنها. ذلك أنّ الإناء بما فيه يرشح، فالشجرة الطيّبة لا تثمر مرّا وزهرة السوسن لا تنشر إلا عطرا وشذى، وكذا التُّرب التي منها قُدّت الأجساد تُعرب بِنبتها عمّا فيها"وٱلْبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذْنِ رَبِّهِۦ ۖ وَٱلَّذِى خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا"( الأعراف، 58) فكلّ شيء تتناتجُ أفعالُه عن أصل روحه إن كانت طيّبة تطيب بوادره، وإن كانت خبيثة تخبُث سواعيه ولنا في النّفوس عبرٌ، أليس الجُعل تلك الخنفساء الممجوجة تعشق النتن لروحها الخبيثة ويؤذيها الورد وطيبُه وتسعد للخريفِ وجدْبِه وتلك لعمري طباع النّفس تنشط لأمرها الأعضاءُ فما شابهها ألفته ورضيت به وما خالفها أَنِفته وجَفلت منه. فالكلمات" الخبيثات للخبيثين"( النور، 26) نفسا والكلمات" الطّيّبات للطيبين" نفسا، فاللسان مغرفة القلب التي تصبغ الروح شغافَه فينطلق بما يؤمرُ. فمن لان لسانه لسمج الكلام يجري به وأرهف سمعه لسفيه اللفظ يستمرئه وأطلق البصر لفواحش الصور والمشاهد يتفحّصها دون أن يسمع لفؤاده صوتا يُنكر أو ضميرا يُشنّع فليُقِنْ أنّ الروحَ قد دُنّست والقلب انتكس وتغلّف بصبغة غير صبغته التي فطر عليها، فحاشا لله فاطرا أن يرضى طيّبُ النّفسِ بالخبيث لفظا أو سمعا أو رؤيةً أو فكرةً إلاّ أن يلد الذئب عَنزا وينتج النحلُ بولا أو يبول الكلبُ عسلا، فتسقُطُ القرائن وتنتفي المؤشرات.
ونجمل، فنقول النّفْسُ ريحٌ في لُطْفها خصّبت الجسدَ ففعّلته إنسانا بما بثّها اللّهُ من أسرارٍ تتكشّف بالعلم تدرّجا وتبقى ماهيتها مخفيّة لجلال شأنها واستئثاره بعلمها ولا يظهر منها إلا ما شاء إظهارَه، أمّا طبعها فيتبدّى في فعل صاحبها وقوله فنجد لها ريحا يُزكّيه الفعلُ أو يُنتنه.
سليم حسني.
أستاذ تعليم ثانويّ.

ليست هناك تعليقات: