إلى نورس : هذا ما فَعَلَهُ مَجيئُكِ بي.. بقلم رحيم جماعي / تونس ..من أدب الرّسائل
من أدب الرّسائل
--------------------
إلى نورس : هذا ما فَعَلَهُ مَجيئُكِ بي.
---------------------------------------------
بقلم : رحيّم جماعي.
---------------------------
(1)
الحقيقة يا حبّي الكبير ، أنّكِ لم تكوني حتّى مجرّد حُلْمٍ بديع ، مِن تلك الأحلام العَصِيّة ، الّتي نُحاوِلُها فلا تتحقّق أبدًا ، فَقَدْ كَفَّ بُراق الأحلام عن زيارتي ، قبل مجيئكِ بسنوات...
لذلك عدتُ إلى أقصى مَخْبَإٍ في ذاتي السّحيقة ، وٱنكمشْتُ هناك مخذولًا ويائسّا ، كأنّني لن أرى أحدًا سواي...
لكنّني -بعدما أشرقتْ شمسُكِ الفاتنة على حياتي الجافّة- ، تفطّنتُ إلى تلك المسافة الهائلة بين الأحلام والأقدار...
مسافة خرافيّة ، لا نستطيع نحن البشر البطيئون قَطْعَها أبدًا...
بل لا نملك القُدرةَ حتّى على تَصَوُّرِها بأذهاننا البليدة ، الّتي نحاول تدريبها على التّخْييل.
(2)
كانت مسافة...
كلُّها مسافات...
حتّى بَلَغَني النّبأُ الجسيم ، النّبأ الأكثر إشراقًا ، النّبأ الّذي غيَّرَ حياتي إلى الأبد ، فخرجتُ مِن كهف ذاتي المُظلم السّحيق ، خرجتُ مثل كائن أسطوريّ ، يرى الضّوء لأوّل مرّة ، خرجتُ لاستقبالك كأشْرَسِ ما تكون السّعادة...
أنا الممنوعُ بحزمٍ وحشيٍّ مِن أيّ سعادة ، مَهْمَا قَصُرَتْ قامتُها...
كان فَجْرًا...
كُلُّهُ أَفْجار...
أشرقَ دفعة واحدة ، في ليل مدينة تنام وتصحو على حزنها الأزليّ في الجنوب ، تحزن وتُعاند شتاءَها القاسي...
كنتُ كائنا ساكنا (مِنَ السّكون وليس مِنَ السّكن) ، لا يكترث لِأيّ شيء يحدث في العالم ، ولا يعبر اهتماما حتّى لو غرقتْ قارّة بأسرها في أعماق البحر...
وكنتِ الحدثَ الخارق الوحيد ، الّذي غيّر وجه العالم ، وبَثَّ الحركةَ فيه...
عالمي الّذي لا شيء فيه يستحقّ شيئا.
(3)
بَلَغَني النّبأُ الجسيم ، فخرجتُ إلى المدينة الغافية في ليل الجنوب القاسي ، لأجوبَ -مِنْ سعادتي الضّارية- شارعها الطّويل ، وأنتبه -لأوّل مرّة- إلى نخيله يَشْمَخُ على ضفّتيه ، وأشجاره العالية تُطاوِلُ الأحلام البعيدة...
وأتساءَلُ -للمرّة الأولى- بدهشةطفل أمام مدينة مِنْ حلوى...
أتساءل إن كان -قبل مجيئك- في المدينة شارع طويل ، وشجر ، ونخيل...؟!
بل أتساءل عَمَّا إذا كان في المدينة مدينة أصلا...؟!
وحين تَسَلَّمْتُكِ هديّة غالية وعزيزة ، كنتِ تَغُطّين في نوم سعيد ، وعلى شفتيك ابتسامة ناعسة...
حينها تذكّرتُ ما تُرَدِّدُه أمّي دائما:
- إذا ٱبتسمَ الأطفال في نومهم ، فإنّهم يستقبلون الملائكة.
وأَمْسَكَ بخناق روحي كائنان لا يلتقيان أبدًا:
السّعادة الطّاغية ، والرّعب المُمِيت...
السّعادة باكتشافي لِشُعور جديد ناعم حَدَّ الذّبح ، وهو أنّ الّتي تنام هادئة بين يديّ ، ليست أنتِ فقط ، إنّما أنا ذاتي...
تصوَّري يا غاليتي هذا الشّعور النّادر :
أنا...أنام...هادئا...بين...يديّ..!
وستكبرين يومًا ، وتكتشفين ذلك ، وتفهمين ما معنى أن يُسْرِفَ والدٌ مثلي ، في حبّ فلذة كبده ، وبالتّالي يسرف في حبّ روحِه.
أَمّا الرّعب المُميت ، فَيَكْمُنُ في يومٍ مُتخيّلٍ ، تُدركين فيه ، بأنّني لستُ جديرًا بكِ ، كوالدٍ ساءَتْه الأيّام ، فَأَعْجَزَتْهُ عن تلبية رغبات صغيرة لابنته الوحيدة...
وهكذا سَكَنَني شُعوران ، لا يُصالح أحدهما الآخر أبدا...
كِلاهما يُوَلّي ظهره للآخر بِقَرَفٍ وٱشمئزاز...
وكلاهما يقسِم -أثناء المواجهة- ، أَلَّا يكون رحيما بنقيضه إلى أبد الآبدين...
ويقسم أن يكون عدوّا مُخلِصًا مادام على قيد الحياة.
(4)
هكذا جئتِ غازية مُربكة...
فقد ابتسمتِ في يومكِ السّابع ، (على غير عادة الرُّضَّعِ مثلك)...
إبتسمتِ بنعومة لا مثيل لها ، فَهَمَسَتْ أُمُّكِ لي :
- لا تُخبر أحدًا...إنّها البِشارة.
أمّكِ الّتي تصدّق كلّ شيء ، إنّ أمّكِ -يا ٱبنتي- تصدّق كلّ شيء...
فإذا تَبَخَّرَتِ الأرض ومَنْ عليها ، تُهَلِّلُ :
- يا لَلْبُشرى...لا شكّ أنّها الجَنّة..!
(5)
لَمْ أَرَ في حياتي كائنا يبتسم مثلكِ أبدا...
كانت بسمتُكِ طائرًا بألوان عجيبة ، بخطّ على شفتين انْفَرَجَتَا على وَعْدٍ لا تُعادِلُه كلّ كنوز الدّنيا...
وٱنفرجتا على شمس طريّة ، تقول شيئا واحدًا ، وهو أن لا غروب بعد اليوم...
قلتُ: نعم ، للأطفال ملائكة للحراسة...
وبدأتُ أحلم :
حَلُمْتُ لكِ بما لم يحلمه بَشَرٌ قبلي...
حلمتُ لكِ بمنازل الغيم ، بِدارات الضّوء ، وعَرَبات الأهِلّة...
حلمتُ لكِ بحدائقَ لم تَمْسَسْها يَدُ إنسان ، ولم تُلوّثها الحداثة...
حلمتُ لكِ بطاىر الحظّ العجيب ، لا يغادر كفّيك ، بوردة النّوم السّعيدة ، تَنْدَى على شفتيك الباسمتين في كلّ الّليالي...
حلمتُ لكِ بشُعوب لا تتعب مِن حبّك أبدا ، بموعد يوميّ مع شمس بَلِيلة ، يُكوّرها الإنتصار الدّائم البديع...
حلمتُ لكِ بأعراس النّجوم ، وصباحات الأغاني ، وسلامات المحبّة...
حلمتُ لكِ بذلك السُّلَّم العالي ، الّذي لا يَبْلُغُ آخر درجاته إلّا العظماء والعظيمات...
حلمتُ لكِ بالهدوء يَضُجُّ بالسّعادات الدّائمة...
حلمتُ لكِ...
حلمتُ والخوف يُمزّق روحي ، فَقَدْ طَحَنَتْ رَحَى الأيّام ، كلّ أحلامي القديمة ، ولم تُبْقِ منها سوى أطياف نحيلة ومجروحة...
ومع ذلك قرّرتُ :
على الرّيح الحقودة العابثة ، أن تغادر حياتي فورا...
وعلى الوقت الرّجيم أن يسحب كلّ سواده وسُمومه ، من نافذتي ودمائي ، (لم أزل أتمنّى ملكيّة باب ونافذة)...
وعلى البلاد أن تكون -من الآن- بلادا...
وعليّ أن أبدأ من جديد...
كم مرّة سأبدأ من جديد..؟!
كم مرّة سأنهض من رميمي ، وأنطلق في رحلة لا أعرف نهايتها..؟!
كم مرّة سأُطيح بغول الغربة في البلاد ، وأُغْمِدُ شموخي في صميم المذلّة ، وأفتكّ حياتي من بين أسنان الزّمن المتوحّش..؟!
كم مرّة سيجرحني هذا السّؤال الدّامي :
متى ياتي اليوم الّذي سأكون فيه جديرا بكِ ؟
(6)
قَبْلَكِ لم أكن أَلْوي على أملٍ ، سوى أن أنتهي بسرعة وهدوء ، وبأخفّ اللأضرار والخسائر ، الّتي تكبّدتُها مخذولا بأهلي وأحبّتي وبلادي...
قبلكِ كانت حصّتي من هذا العالم عَذابان ، لم تعد لي قدرة على ٱحتمالهما :
عذاب العيش ككلب مشرّد...
وعذاب اليأس من فَتْكِ الآفاق ، الّتي ٱنْغلقتْ كلّ أبوابها ونوافذها وسقوفها أيضا...
كنتُ قد كَفَفْتُ عن منْحِ الثّقة لذلك السّحاب المعنويّ ، الّذي نَسَجَتْ بشائره الأولى ، أمنياتي الصّغيرة ، وهي أمنيات صغيرة جدّا :
عمل قارّ ، بيت صغير ، زوجة صالحة ومُحبّة ، وطفلان جميلان (ذكر وأنثى) ، أُغْدِقُ عليهما روحي أنهارا من المَحبّة ، (هذا ما أسمّيه بالسّعادة)...
كان ذلك السّحاب المعنويّ ماكرًا ، وكاذبًا ، وخادعًا كمحبوبة خائنة...
كلّما دعوْتُه يأتي مُثْقلًا بالمطر النّاعم ، لكنّه يتجاوزُني دائما ، ويَهْمي بعيدًا...
وأحيانا كثيرة ، يكون على قَدْرٍ هائلٍ من الشّماتة ، بحيث يتجاوزني ليُمطر في الجوار...
ذلك السّحاب المعنويّ الحقود ، علّمَني -بعد خذلان طويل- ، كيف أُدير له ظهري ، وأَمُدُّ روحي لصديقيَ القحط ، وحبيبي الجفاف...
علّمَني كيف أُفْرِغُ كلّ أحلاميَ الحُسنى ، من فِتْنَتِهِ ووعوده الكاذبة ، وأَهَبُها -بكلّ ما في العالم من يأس- للفراغ ، الّذي تعاهدنا (أنا وهو) ، على أن نكون صديقين لا يفترقان ، حتّى لو امتلأتْ كلّ أكياسِنا بالآمال...
وَ...جئتِ أنتِ...
جئتِ هكذا...كانّكِ كنتِ هناك دائما ولم أنتبه ، حتّى أنّني فكّرتُ في الخروج إلى الشّارع القاسي ، لأسأل الجيران:
من هذه الطّفلة الّتي تُشبهُني ؟!
أو : من هذه الطّفلة الّتي أُشبهُها ؟!
نعم... إلى هذا الحظّ كان مجيئُكِ لا يُصَدَّق..!
أرأيتِ -يا حبيبتي الصّغيرة- ، كم كان حبيبُكِ هذا ميّتًا.؟!
أرأيتِ كم كنتُ لا وجود لي ، لولاكِ يا قدَري الفاتن.؟!
نعم هكذا...
فأنا إلى يوم النّاس هذا ، لا أعرف كيف أحبُّ كائنًا آخر أكثر منكِ ، إذ يكفي أن تغادري المكان ، حتّى يشتعل شوقي إليك ، كأنّ المكان أنتِ ، وأنتِ الزّمان...
لهذا أَحَبَّني الّله بما يكفي ، لأكون إلى جانبكِ ، أو لتكوني إلى جانبي ، أو لنكون معا دائما ، و...دائما.
(7)
...ومازال في روحي بَوْحٌ كثير :
قبلكِ ، كنتُ أملك القدرة على فِعْلٍ وحيد ، وهو أن لا أكون شيئا...
وَكَيْ يكون الأمر أكثر وضوحا ودِقّة ، أقول :
كنتُ -قبل هبوبكِ الباذخ- ، أَحُثُّ خطاي نحو الموت ، بطريقة تُثير إعجاب الأعداء...
أولئك الأعداء الف ، الّذين يحاولون إقناعي دائما ، بأنّ موتي سيكون مُدَوّيًا وجميلا ، شريطة أن أحافظ على الطّريقة الّتي أمضي بها نحوَه ، والّتي يصفونها بالمُثْلَى والرّائعة والمدهشة...
قبلكِ ، كنتُ مُجتهدًا في كَسْبِ صداقة الموت ، الّذي كان يبدو كَنَجْمٍ عزيز المَنال ، أُحاوِلُه فَيَنْأَى ، كأنّني لستُ جديرًا بجمالِه الفاتن...
مَثَلًا : كان يكفي أن أُفكّر بالموت ، حتّى تَغْدُو -هذه المُسمّاة الحياة- ، قِطارًا مجنونًا ، يسير بسرعة جنونيّة ، ولا يتوقّف في أيّ محطّة ، إلّا في أحضان الموت...
حينها ، ينسحب السّيّد الموت كثعلب ماكر ، ويترُكُني حاضِنًا حفنة من رياح...
كلّ هذا كان يَحْدُثُ لي ، لأنّكِ لم تكوني في حياتي...
أَمَّا وقد جِئْتِ في ذلك الموكب العَصِيّ على الوصف والتّشبيه ، فَقَدْ فَرَّ الموت مَصْعوقًا بعودة الحياة إلى حياتي ، وٱنْكَسَرَتْ أحلام الأعداء ، كَزُجاجٍ هَشٍّ مَنْذور لِكُرَةِ طفلٍ طَوَّحَتْهُ الشّقاوة.
(8)
كان هذا مَوْكِبُكِ ، الّذي لم تَشْهَدْهُ روحي ، ولم يَحْضَرْهُ قلبي ، ولم تكْتحِل عينايَ بألوانِهِ السّالِبة ، الّتي كادت تَلْمَسُها يداي ، ويدايَ لم تَحْضُنا حفلًا منذ أكثر من ثلاثين عاما...
وستكبرين طبعا ، وتُدرِكين ما معنى أن يَحزَن كائن مثلي ، أكثر من ثلاثين عاما...
وهذه هي الأعراس الّتي حَفَّتْ بموكبكِ الخُرافيّ :
أَيَائِل وغزلان شَفَّتْ أجسادُها ، كأنّها من بِلَّوْر...
طيور مُلوّنة بشكل لا تُصدّقه حتّى عقول الفلاسفة القُدامى...
شُموس ، وأقمار ، واَهِلَّة صغيرة ، تَنَزَّلَتْ بهدوء ، وأَدَّتِ الوَلاءَ لحضرة (نورس)...
ملائكة وجِنِّيات طيّبات ، يَرْشُشْنَ العطور النّادرة ، على الموكب المهيب...
البِحار والوديان والجداول ، تسعى خَلْفَ خُطى الموكب ، وتُرسل برذاذها من قريب ، حتّى تظلّ الأجساد نديّة ومضيئة...
الأشجار بكامل خُضرتِها ، الحدائق بورودها ، وأزهارها البرّيّة ، تُحيط بالموكب من جهاته الخمس...
أَنْسام الفجر الأولى ، والصّباحات في بداياتها ، وما بعد أنصاف الّليالي ، تُجَلِّلُ ذلك القُدوم الخاطف للأبصار...
الجبال تَحْنٍي قاماتها ، والهضاب تُنيخ ركائبها لمليكتها السّالبة...
وكانت قبائل وشعوب لا تَحْفَلُ بسواكِ...
كان موكبُكِ هو الدّنيا بأسرها...
آهٍ يا موكبكِ.
(9)
حَدَثَ هذا -يا وحيدتي الوحيدة- ، حدث فِعلًا ، وقد احتَشَدَ كلّه في روحي ، حتّى ضَجَّ به صدري وأخْيِلَتي ، وفَقَدَتْ عيون قلبي السّيطرةَ على مسيرة الموكب الحافل ، حتّى كادت تُفلتُ منّي أَعِنَّته...
أرايتِ ما فعلتْ بي السّعادات الّتي سبّبتِها لي..؟
إنّ السّعادة تُصيب ماسِكَها بالجنون أحيانا ، وأحيانا تقتُلُهُ...
نعم ، لقد كنتُ -قبل مجيئكِ- سيِّءَ الوطن ، والنّاس ، والأهل ، والأصدقاء ، وعديم السّعادة حتّى الموت.
(10)
حَدَثٌ آخر يا ٱبنتي ، أصابني بالإطمئنان والسّكينة إلى حين...
حدث آخر نَبَّهَني إلى أنّني مؤمِن بلا هوادة...
مؤمن حتّى وأنا أقف في أَوْجِ خساراتي ، وشقائي الّذي أَرْسَى دعائمَه الآخرون...
مؤمن بذلك الوجود الطّاغي ، لقوّة لا تُضاهى ، إسمُها : الّله...
يا للبهاء النّادر في لفظة : الّله...
الحدثُ الّذي لا يُنسى ، هو جُملة لن تزول من قلبي وذهني بَلاغتُها ، وسأذكُرُها دائما ، لأسمع رنين جَرَسِها يُنبِّهُني ، إلى أنّني -رغم وحدتي- لستُ وحيدًا...
كان شتاءً قاسيًا وعسيرًا ، وكُنّا -أنا وأنتِ- ، نقاوم البردَ في غرفة يتيمة ، شُيِّدَتْ أساسًا لتربية الدّواجن...
كان البردُ كافرًا بحقّ ، لكنّنا كنّا نقاومه كلّ مِنّا بطريقتِه ، أنتِ بطفولتِك الطّريّة ، وأنا بِنَهْرِ المحبّة داخلي...
كيف أقول محبّتي لكِ ولا أسيل..؟
كنتِ تتوسّدين ذراعيَ اليمنى وتحلمين ، وأنا أصغي إلى غضب الرّياح في الخارج ، وعوائها في روحي ، وأَلْمَحُ أنياب النّهارات القادمة ، وهزائمي فيها...
كانت ليلة باردة وطويلة كالأبد...
أخيرًا لَاحَتْ بوادر الفجر الأولى ، تدعوني إلى استقبال طعنات النّهار...
فجأة ، إنساب صوتكِ النّاعس في أُذنيّ :
- بَابَا ، إنّ الّله يغنّي.
وٱنتبهتُ إلى آذان الفجر يسري بالمخلوقات على أجنحة من ضوء شفيف...
كان الضّوء في روحي ، حتّى كِدتُ ألمَسُه بيديّ هاتيْن...
كان الضّوء خيوطا من عسل وحليب ، وخُيِّلَ إليّ أنّنا -أنا وأنتِ- ، نشرب الضّوء بلهفة مَنْ فَقَدَ البصر زمنًا ، وٱستعادَه فجأة...
إسْتَدَرتُ إليكِ بكُلّي...
كنتِ قد عدتِ إلى نومكِ وأحلامكِ مطمىنّة وسعيدة...
فهتفْتُ في سِرّي :
- ما أَرَقَّ الّله ، وما أَلْطَفَهُ ، يُذكّر الكِبار مثلي بوجوده وعظمته ، و"يغنّي" للأطفال...
وبِيقينٍ صَلْبٍ ، أدركتُ أنّ خذلاني لن يطول ، فنحن -أنا وأنتِ- ، في رعاية ربٍّ يُحوِّل ضوءَه إلى رغيف ، و"يغنّي" للأطفال...
وكما لا تعلمين -يا حبيبة أبيها- ، أنّني عندما كنتُ صغيرًا ،(لا أذكر أنّني كنت صغيرًا) ، لم يُغنِّ لي أحد ، وعندما كبُرتُ ، غنّيتُ لِذاتي ، لكنّني أفلحتُ فقط ، في أن يكون غنائي جارحًا ، وذابحًا ، وحزينا...
فما أصعب الكتابة عن الّله ، الّذي (غنّى) لكِ بعذوبة فائقة ، في ذلك الفجر الشّتائيّ القاسي.
(11)
والآن -يا أحلى أسبابي- ، كيف أنظر إلى الأمام وأصدّقه..؟
لقد كَفَفْتُ -قبلكِ- عن الإلتفات خلفي ، إذ لا شيء يُغري بالإلتفات إليه ، فَقَدْ كان الحاضر آنذاك داميًا ، والماضي بائسًا وحزينا ، والآتي -كما كنتُ أرى بوادره في ذلك الحاضر- ، حفلة هائلة من عويل...
لذلك كنتُ لا أذكرُ الماضي إلّا لِماما ، وأعيش حاضري بجسدٍ من لامبالاة ، وأمضي إلى الآتي بذاكرة من نسيان ، كأنّ الآتي لن يأتي أبدا...
كان الشِّعْرُ -قبلكِ- ، هو الكَرَمُ الحاتميّ الوحيد ، الّذي يُغْدِقُهُ قلبي على جسدي ، لكنّه كان كَرَمًا جنائِزيًّا ، يَحُثُّ النّهايات المُريعة على القدوم السّريع ، لِتَطْويني في غياهِبِها...
كانت كلّ أسبابي للبقاء على قيد الحياة نَثْريّة جدّا ، وأنتِ -بعد هبوبكِ العارم- ، السّبب الشّعريّ الوحيد ، الّذي يستحقّ الإقامة على هذه الأرض ، الّتي كانت قبلكِ مجازيّة جدّا ، ونثريّة جدّا حَدَّ السّخافة...
فكيف أنظر إلى المستقبل ولا أكذّبه ؟
(12)
والآن ، وأنتِ تكبرين على مهل ، غافلة عمّا أُكابِدُه ، وتعبُرين الأيّام ضاحكة ، بخفّة حَسُّون ، ورشاقة غزالة ، فَأُلَمْلِمُ الصّباحات الّتي خَلّفَتْها خُطاكِ الرّهيفة ، وأَرُشُّها في عينيكِ...
ما أجمل الصّباحات في عينيكِ...
أحبّ عينيكِ...
والآن ، ويداكِ تَبُثَّانِ -من كَرَمٍ- دفئًا غزيرًا في يديّ إلى روحي...
أحبّ يديكِ...
كم أحبّ يديكِ...
والآن ، وأنا أقف مُرتجفًا بين سعادتكِ الصّغيرة وخوفي عليكِ ، أحاول حراسة السّعادة من الزّمن الّلقيط ، الكامن على مقربة ، يتصيَّد الفرصة السّانحة الغدر...
الزّمن هو (الآخرون)...
لكنّني -بحنان الوالد ورِقَّتِه- ، أكادُ أسيل في هذا التّوسّل :
- إِلَهي ، يا سَنَدي وضوءَ قلبي ، أُحْرُسْ أَحبّة (الآخرين) ، لِئَلَّا يواجهوا مثلي أشباح الخوف والفزع والرّعب...
أُحرس -من أيّ سوء- أحِبَّتَهم ، لِئَلَّا يحترقوا في جحيم الشّكوك والحيرات ، الّتي يبُثّها الغامض والمجهول في أراضي مستقبلهم...
ما أَسْعَدَ الّذين يملك مستقبلهم أَراضٍ يرعى من عطاءاتِها ويرعاها...
ما أسعد الآباء ، وهُم يشاهدون فلذات أكبادهم ، يكبرون في أعطافهم وأعيُنِهِم...
والآن... ماذا سيحدث بعد الآن ؟
(13)
والآن يا وطني ، وناسي ، وأهلي ، وأصدقائي جميعا ، وسعاداتي ، وأَعماري ، وٱحتفالاتي...
الآن كيف أَرُدُّ الجميل لفاتنتي وحبّي الكبير..؟
كيف أتخلّص من شعوريَ الذّابح ، بأنّني أَبٌ لا يليق بنورسةِ الّله في أرضه..؟
كيف أنْجو برغباتكِ الصّغيرة ، من منعطفات الأيّام ، وطعناتها الغادرة..؟
كيف أُشرّد هذا الرّعب بعيدا عن الأعياد ، الّتي جاءنى بها مجيئُكِ..؟
لقد صدّقتُ أنّ في البلاد الصّغيرة ، شجر ونخيل ، ولكن كيف أدعو التّفاؤل النّائي ، ليطرد خوفي عليكِ ، ويُبقي الّلون الأخضر في عينيّ..؟
لقد صدّقتُ أنّ في البلاد بلاد بحقّ ، ولكن كيف أفتحُها لكِ ، دون أن يُدركني السّيّد الموت ، فتبقين وحيدة ، بلا حبيبكِ هذا..؟
كيف أُقنع البلاد الصّغيرة ، بأنّني يجب أن أعيش من أجلكِ أنتِ ، وليس من أجلي..؟
وكيف أُفهِمُها أن لا معنى لأيّ شيء جميل ، إذا لم تكوني فيه ، ولم تَمْسَسْه عيناكِ ، ولم تَرَهُ يداكِ الرّقيقتان..؟
هذه هي مِحرقة الأسئلة...
هذا ما فَعَلَ بي مجيئُكِ.
(14)
جئتِ إذن...
جئتِ كأنّكِ بداية الخلق ونهايتها...
وكأنّ الأرض تنتظر منذ ملايين السّنين ، تِلْكُمُ الّلحظة النّادرة...
الّلحظة الّتي لا يستطيع أَعْتَى المخلوقات، إحتمال ضوئها الباهر...
جئتِ ، والرّيح ليست مواتية ، لكنّني سأُطيلُ من قامتي ، وأظافري ، وأنيابي ، وحدائقي ، وسمومي ، كي أستطيع الوقوف في مواجهة هذا الهبوب الحاقد للرّيح...
جئتِ ، والبحر لم تهدأ ثورتُه بعدُ ، ولكن يداكِ كافيتان ليهدأ ، يداكِ تمسحان على موجاتِه فينام...
جئتِ ، والضّجيج يملأ الدّنيا وضواحيها ، لكن صوتكِ الدّافىء يكفي ، حتّى تذهب الدّنيا في سَكينة ، تطمئنّ لها القلوب والأرواح الشّقيّة...
جئتِ ، فَعَلَى الدّنيا السّكينة والسّلام...
أَرَأَيْتِ إلى أيّ مَدى ، ذهبتْ بي -بمجيئكِ- الأحلام ؟
(15)
نورس :
يا حبّي الكبير ، هذا ما فَعَلَ مجيئُكِ بي.
----------------------------------------------
*نورس ، إبنة الكاتب الوحيدة ، ثلاثة وعشرون سنة.
*كُتب النّصّ منذ عشرين سنة تقريبا.

ليست هناك تعليقات: