نصوص للشاعرة السورية كوثر وهبي
الوتر الذي مرّاتٍ خان أصابعك
الريشة التي فوق بياض القلب
عبثت باللون طويلاً؛ فتلاشى ..
اللوحة التي شردت غزلانها
في أفياء روحك وتركتك وحيداً
بلا لون، أو لحنٍ ينشبُ
في نايِ صدرك المتعب ..
وصوتك الذي كفَّ عن البوح
أخيراً؛ تخشَّبتْ عروقهُ
واستحال عوداً ينكأُ جرحَ قلبك
كلُّ ذلك ولم تزل واقفاً
مثل هرمٍ في محطة انتظارها
وتؤمنُ بقدومها أبداً، مثل نورٍ
أول الصبحِ وفي كلِّ صبحٍ
تنتظرها؛ الحريةُ التي لم
تخُنْ يوماً صلاتك في محرابها
لا تخطيء الدرب إليك
ولا تنسى ..
******
وحدي أمزِّقُ صوت الوقت
أفتتُ لكنة الساعات المجعَّدة
بطقطقةِ أصابعي، واهتزازِ قدمي المضطربة
لغتي غريبة الأطوار ..
لا تُحسنُ الجدران ارتداءها
كما أنَّ جثةَ الوقتِ بدينةٌ عليها
لغتي ضيقةٌ كمزرابٍ قديم
يتدلَّى من تحت قرميد السطوح
لا أُتقنُ الحديثَ كمئذنة ..
أو كجرسِ كنيسةٍ كبير ..
صوتي خافتٌ كماءِ بئرٍ عميقة
ككتابِ التاريخ المملوءِ انتصاراتٍ خجلى
بينما تصرخُ الكلماتُ اعتذاراً لقتلى الحروب
صوتي ما تعلَّمَ الصراخ، حين يبكي
هو فقط في كلِّ نكبةٍ يطوي حباله المتعبة
فوق بعضها، يجففها جيداً، يربِّتُ على
كتفها كي تنام في سلام ..
********
الأرض التي تدورُ بنا
تعلمُ ما تفعل ..
ونحن الذين ندورُ فوقها
نعلمُ أننا لا نعلمُ؛
لماذا وكيف وإلى أين
نتجهُ !؟
وكان السؤال غصةً،
غرست شوكها في دمي؛
كيف أنتزعُ هذا الحُبَّ من صدري
ومن رأسي، وأيامي ؟
أيتها البلادُ التي بعُدتْ .. تناءتْ ..
تسمَّرتْ في الخراب ..
أيتها الجرحُ، القيحُ، الدمُ ..
********
مرةً واحدة؛ أريد لذاكرتي
أن تختفي .. أن يصبح رأسي
مصفاةً تنخلُ طحالب الحزن
العالقة في خلاياه ..
مرةً واحدة؛ أريد لحزني
أن يلفظني كجثةٍ تالفةٍ
خارج بحره الهائج ..
أريدُ لجثتي أن تعوم هادئةً
خفيفةً بين السماء و الأرض
أن تكون بلا لون .. بلا خوف
بلا أدنى فكرة عن الغد
أو اليوم .. أو الأبد الذي
لا نعرفه ..!
بين الرجاء والأمنية،
سيبقى الشرود حائماً ..!
********
كأنَّ حلماً متواتراً
أو ربما خيالُ البعيد :
غمست كفي في الظلام
وكان قلبي يرتجف
غرفت من عتمة الليل الطويل
لُقماً ودلقتها في فمي
حتى امتلأتُ وطفوتُ
فوق الدموع
لم أحسب للبعد غياباً يا أمي
لكنني تنازعتني الدروبُ
وما هان القلبُ النحيل
وما عرفتُ الإياب إليك
إلا ميِّتةً، محمولةً
بين الضلوع
كان خوفاً عارماً
يدقُ مضاجع الليل
وأبي يهيءُ للأقمار عرساً
ويبذرُ صوتهُ الجليَّ رهبةً للسكون
وكنتِ تنشغلين بتوضيب أسرَّتنا
والدفُء قناديل حزنٍ مدماة
ويداكِ الشمعتانِ؛ قديستان
في معبد الوقت ..
والوقت هجوع
كنتُ أطرقُ بابك المشرعَ للتيهِ
والصمتُ معقودٌ على طرف اللسان
والخوف يقبضُ قلبي المسكين
والبيتُ؛ " يا بيتنا المعشوق "
كما هو منذُ ألف عامٍ
وأنا في ظلِّه ريحانةٌ ألقي
على المصاطب تعبي وخمولي
وقلبي الموجوع ..
أيُّ شوقٍ يعتريني
والدربُ في الحلم، لا دربٌ ولا وصلُ
وأكاد أصرخُ غبطةً وأكادُ أقولُ
لكنني بلا صوتٍ ولا حولٍ أدورُ
والكلام لا صرفٌ
ولا ممنوعُ ..
كأنَّ حلماً تواتر في الحلمِ
وأخيلةً من زمنِ الرحيق
تفتحتْ وأينعت في دمي
لكنَّ هذا الليل ذئبٌ يا أمي
وأخاف ينهشُ أضلعي
وأخافُ عليك من الوقت يمضي
وأخافُ نبقى على الحلم
زمناً .. ولا نحظى
بالرجوع ..!
********
الهشاشةُ التي قَستْ
عليكِ قديماً
الهشاشةُ التي ثقَّبتْ
روحكِ بعسّفِ الخيبات
خلقتْ لقلبكِ آلافَ العيون
وسَّعتْ للرؤية مداركَ النظر
حين تكون ، يكونُ للحزنِ
ألفُ بابٍ ، ومفتاحٌ وحيدٌ
يصلحُ لكلِّ الأقفاصِ والتوابيت
الهشاشةُ التي صارتْ تضمُّكِ
كأمٍّ منهكة ..
تحنو عليكِ ،
كفيءِ غابةٍ ..
الهشاشةُ ذاتُها
تُشهِرُ عجزها للحبِّ
كنافذةٍ بلا جدار
وبعينٍ واحدةٍ
تُطلُّ عليه ، ممرَغاً
بشهوةِ ذئبٍ ، أفلتَ فريستهُ
راضياً .. ينهشُ لحمهُ
ويصرخُ
محموماً
بالفقد ..!
********
كانت حياتنا ضيقة
مثل نظرةٍ جانبية ساخرة
مثل كلماتٍ صغيرةٍ متهكمة
كانت واحدةً وواضحة
مثل خطٍ مستقيم وثابت
مثل خيطٍ رفيعٍ وممتدٍّ
مثل سكةٍ وحيدةٍ لقطارٍ وحيد
يعبرُ الغابة دون اكتراثٍ للأفاعي
أو لغربان الطريق
كانت حياتنا رداءً ضيِّقاً
على مقاس أحلامنا وخيباتنا
رداءً سميكاً يسترُ رقعَ أحزاننا
كنا نحبها بحنوٍ وسذاجةٍ
إلى أن مزقتها الحرب
فتناثرنا إلى حيواتٍ صغيرةٍ مقطعة
قطعاً من اللحم البارد عراةً
دون دليلٍ
نسعى في الدروب ..
: ********
صباح الخير لكل الذين يجالسون
الغرف النائية في نهارات
الاغتراب البعيدة
صباح الخير لكل الذين ينتظرون
تفتُّح الصباحات في قلوبهم
آمالاً واعدة
صباح الوطن البعيد ..
البعيد ، كفكرةٍ يانعة
في أقاصي الروح ..
: ********
مثل قطرة ماءٍ
في قعر الكأس
وحيدةً كنتُ ..
أنظر من خلف زجاجي
لذلك النوع
من الحياة؛ كحلمٍ بعيد ..
في داخلي احتراقٌ
وشغفٌ؛ روحٌ ثائرةٌ.
ك نارٍ داخل فانوس ..
كنت ألتهبُ وحدي
وفي القرب مني، حياةٌ
تصعدُ للحياة ..
ولا تدركني ..!!
:
ليست هناك تعليقات: