واردٌ من بريدِ السماءِ ...ميرفت أبو حمزة / لبنان

 واردٌ من بريدِ السماءِ

___________________


ستعيشينَ بعدي طويلاً

وقد تلتقينَ بشخصٍ يجيدُ العزفَ على ( سوناتا ) كتفكِ أكثرَ مني ..

قد يكونُ حنوناً وقاسياً كما كنتُ

يحملُكِ إلى سريرِ الغيمِ ، لكنهُ سرعانَ ما يسّاقطُ مطراً من سمائي ..  


قد يكونُ رجلاً متقلباً

تجتمعُ فيهِ كلُّ الفصول ، لكنهُ لن يجيدَ الوصولَ إلى رياضِ روحِكِ الخضراءِ ، فتمسينَ قاحلةً ..  


قد تلتقينَ رجلاً يجيدُ قراءةَ ملامحِكِ ،

لكنهُ لن يجيدَ الكتابةَ على ورقِ شفتيكِ مثلي ..


 قد ينامُ باكراً حينَ تنامين وقد يسهرُ طويلاً إن كنتِ مؤرقةً ، فلا يحظى بمتعةِ السلامِ في النظرِ إليكِ 

أو النومِ تحتَ رعايةِ مقلتيكِ ..


قد يحتملُ مزاجيتَك أكثرَ مني 

وقد يحبُ الذهابَ معكِ إلى السوقِ بعكسي ، لكنهُ أبداً لن ينعمَ بلذةِ جنونِكِ 

ورؤيتِكِ عندما تجربينَ أمامهُ ما اشتريتهِ كلهُ دفعةً واحدةً ..

قد ينتقي لكِ الملابسَ الفضفاضةَ التي لا أحبُّها

وقد تقبلينَ ويعجبُكِ هذا من بابِ التغييرِ ..


ستقبلينَ بأحدهِم معتقدةً أنَّ الحياةَ لا تنتهي بفقدانِ مَنْ أحببتِ وتتزوجينه

وقد تنجبينَ وتختارينَ اسماً لطفلكِ

كنا قد وضعناهُ في رأسِ القائمةِ ..

سأبتسمُ ..صدقيني

وقد أبكي لمجردِ شعوري بأنني

أبٌ لاسمِ طفلِكِ لا أكثر  ..


لا أذكرُ كم من العاداتِ غيرتِها حتى الآن ..

النومُ على بطنِك ،

الرقصُ والركضُ ومداعبةُ الهررة .. 

معاقرةُ الخمرِ و المشيُ حافيةَ القدمينِ في الأزقةِ والجلوسُ على الأرصفةِ ..

الضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ والبكاءُ أيضاً ..

الخوفُ من نباحِ الكلابِ آخرَ الليلِ ومن الكلابِ ..

من صوتِ الريحِ والعواصفِ   ..  

من أزيزِ الرصاصِ وصوتِ القذائفِ .

من الشيبِ والتجاعيدِ الصغيرةِ ..


يا أيتها العصفورةُ التي فتحتُ لها قفصي الصدريَّ وأطلقتُها بعيداً ..

 يا قلبي الذي ما زالَ يخفقُ بين ضلوعِكَ ..

لقد تركتُ لكِ روحي موزعةً على كلِّ

الدروبِ 

التي قد تمرّينَ بها ..لَمْلِميها وأشعليها في المساءِ

وعودي قبلَ أن تغيبَ الشمس

فأنا أخافُ عليكِ من الليلِ 

والليلُ دائمُ الإلحاحِ  على قمرٍ مثلِك يؤنسُ وحشتَهُ ..


إذهبي إلى فراشِكِ وتدثري جيداً

كي لا أشعرَ بالبردِ ...

أنصتي لهدوءِ الليلِ ، أنصتي جيداً

فصمتي صداهُ .. شَبَقُهُ وجنونهُ اللا مرئيُّ والمرئي في حُلمِكِ

على هيئةِ حنجرةٍ تبكي وثغرٍ يابسٍ ..


أيتها الغزالةُ في غابةِ الصندلِ الذّكَريِّ والدحنونِ

أيتها اليمامةُ في سربٍ يهيم نحوَ الشمس ..

يا يمامةَ عمري المتعبةَ ..

تلكَ الذراعُ التي كنتِ تحتمينَ بها 

أصبحتْ خشبةً تصلحُ لأي شيءٍ عدا حمايتِكِ 

فلا تركضي عندَ حافةِ النهرِ وتحتَ الظلالِ العميقةِ ..

لا تعشّشي على غصنِي المقطوعِ  ، بل حلّقي حيثُ أولُ الشروقِ ..


أنا لا حاجةَ لي لاحتسابِ الوقتِ الذي قد تمضينه خارجَ البيتِ 

لأنني أعلمُ جيداً أنكِ لا تحبينَ السقوفَ ولا الأماكنَ المغلقةَ ..


لا حاجةَ لي لاحتسابِ عمري الذي همىَ نحوَ الفناءِ

لأنَني أسقطتُ منهُ كلَّ السنوات

التي لم تكوني ساعاتِها وشهورَها

فخذيني طفلَ ذاكرةٍ يبكي 

كلَّما مرت يدُكِ الصغيرةُ فوقَ أشيائي ، وهدهدي ذِكْري ..


أعلمُ أنني صغيرٌ على الموتِ وكبيرٌ لأقعَ في هاويةِ التلاشي

وقد أخبرتُكِ بأن لا أحدَ يبقى 

وبأنَنا قد نفترقُ لسببٍ ما حينَ كنتِ كلَّ أسبابي

كنتِ تضحكينَ حينَ أكادُ أبكي !


أعلمُ أنكِ تشهقينَ الآنَ وهذهِ الدمعة 

التي لن أطالها ستسيلُ على ترقوتِكِ

آخذةً من وسطِ الصدرِ موضعاً

هذهِ الدمعةُ الشقية ..

الدمعةُ التي كانت لا تجفُّ إلا فوقَ صدري

كم أغبطُها الآنَ ، وكم أتمنى لو أنني منديلٌ 

في يمينِكِ ، هذا اليمينُ الذي نامَ على زندهِ وشمُ الشمسِ ، بينما الغروبُ احتلني تماماً ..


لقد أدركتُ مؤخراً أنَ هذهِ الحياةَ تافهةٌ لا تساوي خفقةَ قلبٍ واحدةً ..

لأنها تُربّينا للموتِ ..للموتِ فقط ..صدقيني ..

أنها الجحيمُ بعينِهِ هذا الذي قذفَتْنا ذنوبُنا نحوهُ بدونِ شفقة

إنها عقابٌ وأشغالٌ شاقة مدى الحياة

واختبارٌ صعبٌ لمدى قدرتِنا على الاحتمالِ فاحتمليها إلى أن نرتقيَ نجوماً خارجَ هذه المجرة لربما نعودُ ونلتقي ..


________________

ميرفت أبو حمزة 

من ديوان "أساور الماء"



واردٌ من بريدِ السماءِ ...ميرفت أبو حمزة / لبنان Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 07 نوفمبر Rating: 5

هناك تعليق واحد:

  1. لم اقرأ نصا بهذا الابداع ولم أقرأ نصا ابكاني قبل هذا النص

    ردحذف

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.