جامعة بون الألمانيّة صدحت شعرًا من أجل السلام ....بقلم الدكتور سرجون فايز كرم
أوّل ما يطرأ على بال المرء وهو يسمع باسم مدينة بون الألمانيّة، الواقعة غرب ألمانيا في مقاطعة فستفاليا، صورتها كعاصمة لدولة ألمانيا الغربيّة بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية وحتّى انهيار جدار برلين وإعلان وحدة ألمانيا بشقّيها الشرقيّ والغربيّ. ولكن من يدخل مدينة بون الألمانيّة تتداعَ في مخيّلته أنغام سيمفونيّات بيتهوفن، وكيف لا وهي المدينة التي ولد فيها هذا الموسيقار وتمثاله شاهق في ساحتها الرئيسة جامحًا بعينيه جموح بازيليك المدينة نحو السماء والتي يعود بناؤها إلى القرن الحادي عشر.
من يدخل مدينة بون سيدخل قصرًا لا يسكنه الملوك وإنّما طلاب العلم وأساتذتهم الذين يحصدون جوائز نوبل منذ عام 1905 في الأدب والاقتصاد والفيزياء. هذا القصر الذي يطلّ على نهر الراين أسّسه الملك فريدرش فيلهلم الثالث عام 1818، وحوّله إلى جامعة تحمل اسمه ارتقت منذ أشهر إلى مرتبة جامعات النخبة الألمانيّة، تضمّ تسعة وثلاثين ألف طالب.
من يدخل مدينة بون يدخل ثالوثًا قوامه بيتهوفن وجامعة المدينة ونهر الراين.
في كلّ فصل دراسيّ تخصّص الجامعة يومًا واحدًا يحمل اسمًا لاتينيّا Dies Academicus أيْ اليوم الأكاديميّ وفيه يقدّم أساتذة الجامعة منذ ساعات الصباح الأولى وحتّى ساعات المساء المتأخّرة محاضرات مفتوحة أمام من يرغب في شتّى الاختصاصات العلميّة.
في الرابع من كانون الثاني 2019 كان طلاب العلم الثقافة من داخل الجامعة وخارجها على موعد مع اليوم الأكاديميّ وفي هذه المناسبة المميّزة أعلن قسم الدراسات العربيّة والترجمة في معهد الدراسات الشرقيّة والآسيويّة عن فعاليّة أدبيّة شعريّة ينظّمها طلاب الماستر في قسم الأدب العربيّ الحديث بإشراف المستشرقة البروفسورة داغمار غلاس والدكتور سرجون كرم بعنوان الشعر هو طريق السلام – قصائد من الشرق الأوسط وحتّى البلقان حول الرحيل والهجرة، وكذلك من أجل الأمل ومن أجل عالم بلا حروب وقد تقاطعت هذه الفعاليّة مع دعوة للحركة العالميّة للشعر بقراءات شعريّة للسلام لبّاها 657 شاعرًا في 112 دولة.
فاق عدد الحضور التوقّعات كمّا ونوعيّة، إذ غصّت القاعة بالطلاب وبالأساتذة والزائرين وامتلأت مقاعد قاعة المحاضرات الثالثة التي تربو مقاعدها على المائة. كانت المنصّة معدّة لأربعة شعراء ولطلاب الماستر في الأدب العربيّ الحديث يقرؤون نصوص الشعراء مترجمة إلى الألمانيّة والعربيّة.
قبل التقديم صدحت آلة البزق بيد الشاعر والموسيقي زكريا شيخ أحمد. بدأت أوتاره تنتقل من مقطوعة تراثيّة ومن موشّح عربيّ إلى آخر.
قدّمت للفعاليّة ميريام كفيرينغ التي تألّقت بطلّتها وإلقائها وحضورها اللطيف ورافقت الجمهور في سيرورة الفعاليّة بين الشعراء والطلاب القارئين النصوص المترجمة.
البداية كانت مع الشاعرة الصربيّة إلفيرا كويوفيتش. هاجرت إلفيرا من الصرب مع عائلتها إلى ألمانيا في تسعينيّات القرن الماضي هربًا من جحيم الحرب التي اجتاحت دول البلقان وتفرّغت في ألمانيا لكتابة الشعر وأصدرت تسعة دواوين شعريّة وتُرجمت إلى ثماني لغات. وهي عضو في الحركة العالميّة للشعر. قرأت إلفيرا قصيدتين باللغة الألمانيّة. الأولى بعنوان لقد استمعت إلى كلماتهم موجّهة إلى ضحايا سربرينكا، والثانية بعنوان الظلال التي ورائي تتطرّق فيها إلى الحرب السوريّة. وقرأ الترجمة العربيّة التي أعدّتها شروق حمّود الطالب العراقيّ حازم بهجت والطالبة الفلسطينيّة عبير عشماوي.
ومّما جاء في القصيدة إلى ضحايا سربرينكا لكويوفيتش:
رأيتً في سيقانهم رجفةً
تجعلهم يسقطون
ترتقبُ اضطهاد وخوفَ الآدميين الصغار
وهم يساقون كقطيع من الكباش القرابين
يثنون رقابهم دون صوت
ودموعهم تنهمر،
ماتوا
بينما لوّح العشبُ الجميل.
كالغنم
أمسكهم الذئبُ
غرز أسنانه في حناجرهم
واستمعتُ
بينما ذهبت تنهداتهم إلى السماء
رأيتُ حيواتهم في أعينهم
و وجدتُ الكثير من الحزن.
ما بالُ كلّ العيونِ التي ترى
تذرفُ الدّمعَ دامياً
وكلّ الأكفّ التي أصافحها
تشبه رائحة ترابِ أرضِ سوريّا.
لمَاذا أرغبُ في الاختباء
تحتَ جنحِ طيرٍ
وعلامَ فوقَ ذلك
لا أرغبُ أن أنسى شيئا.
بعدها اعتلى المنصّة الشاعر الكرديّ زكريا شيخ أحمد. زكريا المحامي والشاعر والموسيقيّ والمغرّد ومدير صفحة نصوص إنسانيّة القادم من عفرين السوريّة والهارب إلى ألمانيا بعائلته من مذبحة الحرب السوريّة ومن سكّين الجماعات التكفيريّة تألّق بقصيدتيه باللغة العربيّة التي يشرح عنوانهما مضمونهما أيّ ذنب ارتكبناه لنخلق كوردًا تحدّث فيها عن مأساة التغرّب لدى الشعب الكرديّ و أنا ضعيف جدّا ذات النبرة الإنسانيّة الطامحة إلى السلام والمكبّلة بالشرّ. ورافق زكريّا في قراءة الترجمة الألمانيّة التي أعدّتها المترجمةكورنيليا تسيرات الطالبة التركيّة غولشا أكتاش والطالب الألمانيّ رينيه شنيتسماير.
وما جاء في قصيدة أيّ ذنب ارتكبناه لنخلق كوردًا
إن كنا شياطين،
لماذا تحاولون صهرنا فيكم؟
إن كنا من أبناء الجنّ،
لماذا تحاولون تعريبنا و تتريكنا و تفريسنا ؟
ما زلنا نتنفس
وسنبقى نتنفس
رغم أنّ ثقلا بحجم كلّ ذنوب العالم
جاثم على صدرنا .
يا الله أيّ ذنب ارتكبناه لنخلق كوردا ؟
و تُهدَرَ دماؤنا منذ فجر التاريخ ؟
هل نحن غلطة و خطأ فادح ؟
يا الله خلقت الجبال فصادقناها
و توارينا فيها
يا الله لولاها لأندثرنا منذ زمن بعيد .
نشكرك يا الله لأنك خلقت الجبال ،
لكن ما عادت الجبال قادرة على منحنا الحياة .
فهل ستحمينا يا الله ؟
وفي قصيدة أنا ضعيف جدّا
إنّ تدمير ما يدمّر الإنسان
يتطلّب شخصًا خارقًا
يملك قوّة تفوق كلّ التصوّرات.
أنا لا أملك تلك القوّة
رغم أني أعرف كلّ تلك الأشياء،
أعرف المسافات،
أعرف المعتقدات،
أعرف الأديان،
أعرف الأنا ...
القارئ الثالث كان الشاعر المغربيّ طارق آيت عياد ذا الأصول البربريّة الأمازيغيّة. ولد طارق في مدينة فرانكفورت الألمانيّة وانتقل إلى مدينة بون منذ أكثر من عشرة سنوات وهو يكتب الشعر باللغة الألمانيّة وأصدر ديوانه الأوّل فيها بعنوان أغاني الظلام قرأ الشاعر قصيدتين بعنوان ربيع فاشل و أساتذة الموت أمّا ترجمة نصوص آيت عياد إلى اللغة العربيّة فقد أعدّها طلاب الماستر في الأدب العربيّ الحديث وقد قرأها الطالبة الجزائريّة مريم بن بوعايشة والطالبة المغربيّة نورا بنتيت.
وجاء في قصيدة ربيع فاشل
تلتهب النار في القلوب
مثلَ لهيب الشموع
بعد الضياء يأتي الذوبان
وبعد الظلام الغول
وبعد الربيع لا صيفَ يأتي
فقط الدم والعذاب والحزن.
الطريق يؤدّي إلى المستقبل
إنّه طريق الجنون.
لا يمكن أن يكون عقلٌ
حيث اليد العليا للتراث.
تدندن أشباح الأرض
أنّ الحياة ملك الشعب
تصرخ في أحلامي
وبالكاد تعرف أرواحُها
رَمَقَ المساواة
ونَفَس الحريّةِ الحقيقيّة.
وفي قصيدة أساتذة الموت
عيون تتغاضى عن الفظاعات وتفضّل السكوت.
كلمات الإنسانيّة العظيمة تبقى مجرّد حبر على ورق
أحلام الطفولة الكبيرة ضائعة إلى الأبد.
جثث الحرب عبر حقول الموت تُنقل في عربة بقساوة وبلا رحمة
يقودها أساتذة الموت.
وكانت القراءة الأخيرة للشاعر اللبنانيّ سرجون كرم، أستاذ الأدب العربيّ والترجمة في معهد الدراسات الشرقيّة والآسيويّة. يعيش كرم في ألمانيا منذ عشرين سنة وهو من جيل شعراء الحرب اللبنانيّة الشباب، وعضو في اتحاد الكتاب اللبنانيّين والحركة العالميّة للشعر. وقد أصدر حتى الآن أربعة دواوين شعريّة وترجم إلى الألمانيّة والصينيّة والانكليزية. القصيدة الأولى أبحث عن عنوان لهذه القصيدة تحدّث فيها عن سبي النساء اليزيديّات واضطهادهنّ من قبل الجماعات التكفيريّة، والثانية دلفي الجديدة وتحدّث فيها عن البعد اللإنساني للحرب. أمّا ترجمة القصيدتان التي أعدّها الدكتور سيبستيان هاينه فقد قرأها الطالب الألمانيّ يانيس هاوغ والطالبة الألمانيّة ميلينا عبد الفلاح.
وممّا جاء في أبحث عن عنوان لهذه القصيدة
كانت تشرب النهرَ كيلا ينتهي جنينُها مثل أخيل...
الأيزيديّة الآريّة التي تبجّلُ طاووسَ مَلَكْ.
الأيزيديّة الآريّة التي عقرَ المحاربون فرجَها
.....
قالت للبحر حين نبش شعرَه فوق عابرين يفتحون بطنَه:
يا بنيّ الذي كنتَ آيةً...
إنْ أردْتَ بعد اليومِ أن تصلّي
فصلِّ مثلي هكذا:
أبانا الذي جاء في الكتب...
القادر على التجلّي بشرًا وطينًا ونارْ...
الذي يحبّ الديكتاتور لأنّه يحب البهاء.
الذي يعطف على المساكين فيعضّ على مناقير الطير
كي تفلتَ حجارةً على الغزاةِ.
الذي يفتح البابْ... الذي يغلقُ البابْ.
الشمعدانَ في بطنِ أمّي
والهائلَ في دمي...
ليتقدّسْ اسمُكْ
ليأتِ ملكوتُكْ
لتكنْ مشيئتك
أنْ أفهمَ كيف أنّ هذه السماءَ
منجنيقٌ رماني
وفي قصيدة دلفي الجديدة
أحصي الشهداء:
قتيل وقاتل
حزام ناسف وصاروخ توماهوك.
أحصي البشر:
رمل على شطّ كون لقيط.
أحصي الانسانيّة:
لا أحدْ.
وكان مسك الختام آلة الشاعر زكريا شيخ أحمد وحنجرته التي صدحت بالمقطوعات الموسيقية الكرديّة التراثيّة وتركت نوتاتها تحلّق في حديقة الجامعة التي يعبرها الطلاب والأساتذة والعشّاق.
جامعة بون الألمانيّة صدحت شعرًا من أجل السلام ....بقلم الدكتور سرجون فايز كرم
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
11 ديسمبر
Rating:
ليست هناك تعليقات: