متاهة إبراهيم ....بقلم محمد آدم مصر
تُرى
لمَ كل هذا الليل؟
لمَ كل هذه الغيوم؟
أنا وحدى أسير فى السكك التى تختلط بالرمل
أقطع الليل فى النهار
وأقطع النهار فى الليل
لا نجوم لى فتلمع فى الأفق
أركض باتجاه البحر ولا أمسك بغيمة
أتوكأ على عصاى لأهش بها على خياناتى
أحياناً
يخيل إليّ أن هذه العصا ثعبان
وأحياناً أهش بها على مخاوفى المتراصه مثل جبل
وتنمو على وجهى مثل فطر بثآليلْ
وجهى الذى خددته السنوات
وأهلكه الحر و القر
لمَ كتب على – وحدى – أن أواصل السير
فى السكك التى لا تنتهى
أما آن لهذا الحزن أن يتوقف
أما آن لكل تلك الغيوم أن تنقشع
أما آن لكل هذه الغربان التى تزعق فى أرض روحى
أن تبتعد
ليعود لى هدوئى
وتلمع شفتى مثل قصبة
لماذا خرجت من أرض أور
بلا كسرة واحدةٍ من خبز
أو جرة صغيرة من ماء
أخرج إلى هنا
إلى بلوطة ممرا
ومن بلوطة ممرا إلى أرض جاسان بمصر
ما هذه الأحلام التى تعشش فى الرأس كالوطاويط
والنمل
وتمشى على جدران خيمتى كالسحالى
ما الذى كان يتربص بى طيلة كل هذه السنوات
كان أبى آزر يحرث الأرض
ويزرع الشعير
والقمح
وفى الليل كان يضمنا إلى فِراشه
مثل دائرة من الحَب والنوى
وعندما يفرغ من عشائه
كان يحكى عن الزمن
وآلهته الرائجة
كان يضحك بملء فمه ويقول
أنا صانع الآلهة الوحيد
فى أرض نينوى
وأور !!
أمي كانت تحلب الأغنام والنوق
ولا شئ – يجمعنا فى آخر الليل – سوى الحكايات
والنبيذ
كانت أرض أور
تفيض باللبن والعسل
لم يكن ينقصنا أى شئ
وكانت الحياة تسير مثل عجلة أغريقيةٍ
ببطءٍ
ولكنها تسير
ولم نكن نخشى من الآلهة أى شر
كانت الآلهة قريبة منا
تنام تحت أسقف بيوتنا الواطئة
وترقد فى حظائرنا مع الماشية
وفوق أسرتنا المصنوعة من الطين والقش
لم تكن تكلفنا أى شئ
سوى قطع الأحجار
ومجموعة من المسنات
والمناشير
وفى ضوء النهار الجاف
كان يجلس آزر أبى لينحتها بعناية وحذق
فى فمه أراغيله
وبين شفتيه بضع أغنياته التى يطيرها
كاليماماتِ
والظل
ما الذى حدث يا إسحق
ما الذى حدث يا ساراى
أيتها الزهرة البرية الجميلة
وأين أنت يا هاجر
أما كنتِ تسكنين هناك فى وديان مصر
بلاهم واحدٍ
أو حتى منغصات
ما الذى جعلنى أتركك هناك
فى كل هذه الصحراوات عارية هكذا
بين الوحوش الضارية
والظمأ القاتل
عن أى شئ أبحث أنا الغائص فى المتاهة حتى النخاع
لم أعد أنام بالليل
وبالنهار أتصلب مثل قشةٍ
كم عانيت وأنا أقطع هذه البرية القاحلة
التى يضل فيها النجمْ
وتغرق فيها الشمس فى المجرة
هل يكون ما أراه وهماً
هل يكون ما أسمعه تهجيس شيطان
ما الذى حدث يا ساراى
ليس فى جعبتى سوى الصخر
والحصى
فى فمى تسكن الوطاويط
وتحت رأسى تنام الكوابيس
كالقطط والسحالي
أحياناً
وأنا أجتاز الصحراوات
أضيق من روحى فى الواقع
كانت صرخاتى تصّاعد إلى سقف السموات
فلا تصل إلى شئ
أريد أن أثقب جلد الأرض
أريد أن أمسك بكل هذه المتاهة من الرمل بين أسنانى
وأطوح بها إلى العدم
أن تكون لى القدرة اللازمة
لأكسر حجر السموات كالرحى
أريد أن أفرك النجوم بين أصابعى
لأ ذريها على المنحدرات
والأودية
أن أدشدش الجبال السامقة
فى بوتقةٍ
بقبضة من حجر
أن أطحنها تحت قدمى
مثل حبة من خردلٍ
وأتركها هناك فى المستنقعات
لتجف
لمَ هذا الهلاك
أريد أن أوقف حركة الأفلاك هذه
فلا تسمع أو ترى
لا تدور أو تهتز
أن أطفئ الشمس بيمينى وبنفخهة من شفتى كالسراج
أدفن القمر
فى غيابةٍ
كثيراً ما راودتنى هذه الأفكار
أن أدفنكم فى قلب هذه الصحراوات
أنت يا إسحق
وساراى أمك
العاقر
العقيم
أتخلص من كل هذا الذى يشوش علىّ أيام حياتى
ويجعلها كالبصل
واللفتِ
ويعوق مسيرتى نحو التحرر الكامل
والخلاص
خلاص روحى
وخلاص نفسى التى تتآكل بلا يقين واحد
أتقدم لكن إلى أين
فكرت أن أتخلص من كل ما أملك
لأعود إلى العدم مثلما جئت
أتخلص من أغنامى وإبلى
وأجلس على صخرة اليأس الرّنان هذه
لأنتظر قدرى
ومصيرى
قدرى الذى يتربص بى مثل شص
وينتظرنى هناك على أعلى المنحدر مثل هاويةٍ
وذلك
بدلاً من أن أقودكم هكذا
وعبر برية الهلاك والمر هذه
وفى كل مرة
كنت أصاب بالجزع والنسيان
مثل أعواد الخروع الناشفةِ
وأكياس الملح والندم
كيف يمكننى يا إسحق
وبعد كل هذه السنوات
أن أقطع شعرة واحدة من رأسك أنت
أنت الذى انتظرتك لسنوات
وسنوات
مثل كبش أطلس
أو غيمة تمطر
كلت عينى من النظر
وأذنى من السمعْ
وتقلقلت صخرة روحى
نحو المنحدر
وها أنذا أقبض على اللا شئ
لا أسمع سوى وسوسة العدم تملأ روحىْ
قلبى مثل حجرْ
وروحى حقل أشواك
وغيوم
لمَ كل هذا يا إسحق
وماذا أمثل أنا فى هذا العالم يا بنى
لم يكن يشغلنى أي شئ
سوى أن أنتظرك أنت
مثل فراشة بريةٍ
أنت يا إسحق
كنت أتشقق مثل رملةٍ بائسةٍ
وأطارد كوابيسى الليلية بأسىً بالغ ٍ
وصُراخات
وكانت أمك مثل هذه الفجاج
عذبة
وحارقهْ
هل يطرح الحسك عنباً
هل تتفجر الأنهار من الصخر
هل تخرج فراشات الضحى من العدم
رحماك أيتها الآلهة الكسلى
أين غلبتك يا موت
أين شوكتك يا جحيمْ
أحياناً
كنت أضحك وأقول
أنتِ يا ساراى أرض ممحلة
وبلا شجرة خضراء
أو حتى خبيزة
ناشفة!!
لم أكن أبصر فى كل هذه الصحراوات الكليلة غير الظمأ
والموت الذى يطاردنى كالخفافيش
أرض حيات
وسحالى
وحين يَجِنّ الليل كنت أقارن بين أمك
وهذه الصحراوات يا إسحق
ثم أجلس أمام باب خيمتى مثل عاطل عن العمل
أنظر إلى تماثيل آزر
أبى
بأيديها الضارعة
وشفاهها اليابسة
أقدم لها الخبز فلا تأكل
أقرب منها الماء فلا تشربْ
وباحترافاتٍ
وتعزيةٍ
كنت أصلى لها صلواتى التامة
فلا يستجاب لىْ
ما هذه التماثيل يا أبى؟؟
لم تكن تبصر أى شئ
ولم تكن تسمع أى نداء لىْ
هل أنا ذرة من الغبار يا إسحق
هل أنا ورقة ناشفة
وعُصافة
تحملها الريح حيث تشاء !!
كنت أبكى
وأبكى
إلى أن تخضر لحيتى مثل قرد
وأشعر أننى مثل نافورة تغلى
فلا يغمض لى جفن
وفيما ساراى أمك تغطّ فى النوم
مثل عظاءة موحلة
كانت تستجمع الأحلام بين فخديها
كالياقوتةِ
إلى أن يطلع الليل من الليل
والنهار الأبيض من الفجِرِ
وكنت أنكش الرمل بأصابعى
إلى أن يجف حلقى
ومن فرط اليأس يا إسحق
كنت آكل الرمل كالنقانق
وأمضغ الحصى تحت لسانىْ
كأجنحة الجرادِ
والقش
إلى أن تنطبخ غابات من الفطر
والطحالب الوارفة
فوق شفتى
أحييك أيتها الصحراوات المتقشعة
أيتها الأيدى العبثية للفراغ اللانهائى
أيتها الصلوات المقدمة إلى العدم
واللا شئ
أنتِ
أيتها الطرق الملتوية
والمتاهة الضارية
لمدخل الجحيم حقاً
أرفع يدى لأحييك بقسوةٍ
فى الوحدةِ
ومنذ سنوات
وأنا لا أبصر سوى طائر العدم الرجيم هذا
وهو يخيم علىّ بأجنحته الهائلة
ومناقيره اللا تعدّ
وهو ينقر أرواح آبائى
وأجدادى
تلك التى تظهر وتختفى مثل قططٍ مقوسةٍ
فى الفراغ اللانهائى
لم أسمع سوى أغنية واحدةٍ
ومن فم امرأةٍ بشهواتٍ تتردد
عبر الأودية
والمنافى
وعلى مصبات الأنهار ومجارى المياه
كنت أرى الموت جاثماً
وهو يرقص بخفة
طائرٍ
أعمى
كنت أبصر الضوء وهو يطير فى السماء كالمنافير
القمر فى انبزاغه
وهو يتلصص على الأرض
بخياناتٍ
وحصى
النهار وهو يتلكأ على قفا الليلْ
بشموعه التي لا تنطفئ إلا تحت قدمىّ
مثل نمل باردٍ
ماذا أفعل فى رحلة الجوع والنسيان هذه
تلك الليالى الطويلات التى أكلتنى فيها الحمى
بفمها العنكبوتىْ
وأرجلها المخاطية السيالة
ماذا أفعل فى دوامة البحث المتواصل عن القوت
والجراد
تحت الأشجار الناشفةِ
والمستنقعات؟!
ما الذى أفعله هنا وفى أرض الكنعانيين القاحله هذه
لقد تركت أور بأبنيتها الشامخة
ومجراتها
بآلهتها المنحوتة من الحجر والصخر
بنسائها الأسطوريات المغسولات باللبن والعطر
على أرضها الموشومة بحليب العصافير
والنواقيس
لقد تركت ذكريات طفولتى
وأحلام سنواتى الضالةِ
ماذا أفعل أنا
بأشجارى العالقة فى الذاكرةِ كالشهيق والزفير
بأيامى التى أحملها فوق رأسى كالبقجةِ
أور الكلدانيين
بشوارعها المسقوفة باللذة
والتضرعات
ونسائها المتشحات بالشهوةِ
كالجنس
ويتلاعبن بالظل
والشمس
كإناث الخيل
والسمك
أين ذهبت كل هذه الصلوات التى كنت أمارسها
عبر الألم
واللذة
مربعات الكسلِ
والظل
ساعات الضحك
والنسيان
لم أفكر لمرةٍ واحدةٍ فى كل هذا الهلاك الذى يحيط بىْ
كالثعابين
والغىّ
وأنا أعبر من مفازةٍ إلى مفازةٍ
ومن بئر ماءٍ
إلى بئر ماءْ
كنت أحمل جرتى كل صباح
وأنا أعمل فى بيت أبى كالدواليب
إزميلى على كتفى
وطعم الملح البارد
فوق شفتى
كالنشارةِ
وعبر برية السماوة المهلكة بما يكفى
كنت أحمل حربتى
وقوسى
لقاء ما يجود به على الحظّ
فمرةً أصطادُ أرنباً برياً
ومرةً
ألف شبكتى حول رقبة وعل
أو ظبى
لم أكن لأنكسر أبداً
فى جعبتى
كانت ترقد الأحلام إلى مالا نهايةٍ
لم يكن شغل رأسى أى شئٍ
سواكِ أنتِ
أنت يا ساراى الجميلةِ
وكنتِ
مثل ثمرةٍ ناضجة
ومحرمةٍ فى نفس الوقت
إلى أن يجمعنا سرير واحد فى آخر الليل
لنجف
أو تهدأ عربات الرغبة التى لا تتوقف عن الدوران أبداً
كنت أرى أمك يا إسحق
وأتطلع إلى ساقيها الرائعتين مثل بحرٍ
ساقيها اللتين تشبهان حديقة الخمر
وذراعيها المنحوتتين
من الماسِ
أتطلع إلى فخذيها اللدنين ِ اللذين يأخذان باللب
إلى صدرها المنحوت بعنايةِ صناع ٍ ماهرٍ
من الرخام
فيتشتت العقل
ورغم كل ذلك كنت أسأل
ماهى الحكمة فى كل هذا يا ساراى
ولماذا أنت عاقر وعقيم إلى هذا الحد
ولماذا تشبهين فى نومك
كل تلك الصحراوات اللعينة
أيتها الإوزة الجميلة
هل هى لعنة آزر الذى تمردت عليه
وتركته هناك يعانى الشيخوخة
والعجز
تركتُ له آلهته المنحوتة من الحجر
والنحاس
وهربت إلى الصحراوات مثل جرذ
ساراى
لماذا تحولتِ إلى تمثالٍ من رخام وإردوازٍ
وبلا حس
لماذا أصبحت أرضك خربة وخاوية
حتى بلا شجرة لبخ ٍ
ما هذه اللعنة التى أصابتنى هنا
وفوق هذه الصحراوات الناشفة إلى أن تشققت
فلتذهب إلى الجحيم كل هذه الأحلام
والرؤى
إسحق
ساعدنى على النسيانْ
ساعدنى على أن أقف على قدمى مثل حصوة
متآكلةٍ
بين أطلال نينوى
وزقّورات بابلْ
ساعدنى على أن أكون نغمة أخيرة
فوق قيثارات أور
وعلى بوابات بعل
ما الذى حدث
ولماذا تركت هاجر فى الصحراء مثل بطةٍ بريةٍ
بين غابة الوحوش
والضوارى
أأنا صنعت هذا بيدى يا إسحق
كيف استطعت أن أفعل كل هذا الخراب
الذى يزلزل جدران نفسى
ويهد بنيان روحىْ
أية خيانة لامرأة تعلقت بىْ
لأتركها هناك فى الفضاء الطلق بلا شفقةٍ واحدةٍ
أو حتى رحمة بولدها الرضيع
إسماعيل
أين إسماعيل الآن يا إسحق
روحى تحجرتْ
ونفسى ملآنة مُرا
كيف استسملت وطاوعت أمك يابنى
وتركت ولدى البكرْ
ليحبوَ هناك على الرمل
مثل صبارةٍ
بلا حبة واحدة من قمح
أو قربة من ماء
أنا
ما تركت لهم سوى جزازات من ردّةٍ
وبقايا ما فى جعبتى من آلهةٍ
لا تغنى ولا تسمن من جوع
أي كائن أنا
إسماعيل ولدى وقرة عينى
ياقوتة القلب
وماء النظر
هل هى الغيرة القاتلة يا بنى بين ساراى العبرانية الشرسة
وهاجر المصرية المطيعةِ
أهو عمى البصر
أم تلك خيانة البصيرة
إسماعيل ولدى الذى تبللت به شفتاى للمرة الأولى
لحظة أن أحسست أن العالم حى
مثل شجرة توت
وأرجوانةٍ
للمرة الأولى يا إسحق
كنت أحس معنى الأرض
والشجرْ
والنبات
معنى النهر والقمرْ
معنى الماء
والظلّ معنى الليل والنهارْ
كيف يمكن لهذه الطبيعة الصامتة أن تنطق
وأن تتكلم
كيف يولد الشئ من اللاشئ
للمرة الأولى أحسست أن أرضى تنتفخ بالماء
أن جراب أيامى لم يعد خاوياً أو خرباً
غنيت ورقصت وطربتْ
أمسكت بقصبة غنائى وغنيت
كان يمكن لى من أجل إسماعيل أن أواصل التعب
والكدح المرّ إلى أن أجعل الصخر يخضرّ
أن أحمل الفأس فوق كتفى
لأشق زند الأرض
بحثا عن الخبز
والملح
وها هى هاجر!!
هاجر التى تركت كل شئ من أجلى يا إسحق
أرضها وأهلها
ناسها ولغتها
حكاياتها وشوارعها
ذكرياتها التى داست عليها
وجاءت معى هنا
لتجف على الرمل
لتواجه الصمت
وقسوة الواقع ِ
لا
لم أكن أحمل فى جعبتى أى شئ
رأسى كانت معبأة بالأساطير
والخيالات
قلبى كان مليئاً بالأفكار والخرافاتِ
التى تبيض وتفقس فى الأرحام
كالفراشات
والبراغل
كانت كل هذه الأفكار تعمل فى رأسى كالمسامير والشوك
وكنت أسأل نفسى يا إسحق
من أين أتينا
وإلى أين نذهب فى نهاية الرحلة
الرحلة التى تبدأ من الميلاد وتنتهي بالموت
وما هو النهر الكبير الذى يضمنا فى النهاية
أهو العماء الذى يبلع فى جوفه كل شئ
وما هو المصير المشترك لكل هذه الكائنات
وأين تختفى العوالم
التى تظهر لتختفى وتختفى لتظهر
استنجدت بكل شئ
استنجدت بالسراب والأحلام
كلمت الحصى
وناديت الترابْ
توسلت إلى كل الآلهة المقدسة
من عشتار إلى بعل
آلهة نينوى
وكهان بابل العظام
ولم يحدث أى شئ
ماهى نهاية الرحلة يا إسحق
أهو الموت يا بنى
تلك الحشرة اللعينة التى تقف فى الحلق كالشوكةِ
وتنام فى المخيلةِ
وتطأطئ الرأس
وترقد تحت أرنبة أنفى كالبراغيث
والنمل !!
لمَ كل هذا القدر يا إسحق
هناك أرض تنبت العسل
والدهن
وهناك أرض تنبت الحسك
والشوك
أهو القدر بالضرورة يا إسحق
أم هى البصيرة العمياء
لكل هذا الكون
وأين تكمن المشيئة التى لا تفهم
ولا تبرر
أحياناً
كنت أتطلع إلى النجوم فى الليل
وهناك أمام باب خيمتى
أرى القمر بازغاً
والسموات تتلألأ بالشهب والضوء
تأخذنى الرعدة
وأتغشّى
أسهر إلى أن تطلع الشمس وتضئ الأفق
صدى كل هذه المجرات لم يكن ليصل إلى
إسحاق
ماذا وراء كل هذه الأكمةِ
وماذا يحجب الأفق؟!
من بئر إلى بئر
كنت أقفز مثل طائر الحجل
ومن فلاةٍ إلى فلاةٍ
كنت أهرّ كعظاءةٍ
فى يوم من الأيام نفد الماء منى يا إسحق
وتطلعت إلى السماء ذات الحجبْ
وتحت قدمىّ
كانت الشمس حارقةً
وتلمعُ
والصحراوات تغلى تحت قدمى كالمهلّ
ولا من طريق آخر لأسلكه
لا أعرف أين يكمن الماء لأصل إليه
أيقنت أنى هالك
لا محاله
اشتد الظمأ بأمك يابنى
توسلت إلى عشتار
وبعل
لم يحدث أى شئ
بكت هاجر طويلا وتمرغت على الرمل
ولم تقل أى شئ
كان الموت يفتح أفواهه الألف
ولم نكن نملك أى شئ
سوى سفّ الرمل
والصمت
لماذا أقصيتنا يا إبراهيم من أرض أور
كنا نعمل كالمجاديف
ونأكل خبزنا
كفافنا
بلا خوف أو مجسات
لماذا أتيت بنا إلى هذه الصحراوات المخوفة يا إبراهيم
والفلوات التى لا تنتهى يا ابن آزر
هل أتيت بنا لتغرقنا فى كل هذا السراب
الذى يبتلع كل هذه القفار
أم أتيت بنا لتقتلنا هنا وفى قلب هذه المتاهة
هل أتيت بنا لتجففنا كالبصل
والطماطم
وماذا يدور فى رأسك أيها السيد الطفل
لقد كان هناك الفرات الذي يسيل بالسمك
والعسل
وكانت هناك كل تلك الأرض
التى تمتلىء بالشعير والحنطة
وكان هناك ذلك الضحك
الذى يكلل حياتنا بالنسيان
ألم تكن كل تلك الآلهه التي يصنعها آزر
أجدى ألف مرة من كل أفكارك المجدبة هذه
ورؤاك التى تشبه السراب
والعدم
ذلك السراب الذى يملأ الصحراوات كالرمل
وأحمله تحت إبطى
كالخرزة
عن أى عزاء أبحث لنفسى أنا إلى جوارك
أيها السيد القاحل
وعن أى شىء تفتش أنت أيها الفقمة
لقد تزوجتك لأنك أبن آرز صانع الآلهة
والتماثيل
قلت لى
سوف تزهر حياتنا مثل أرض بسوسنات
ونخيل
وسوف تجدين فى عينى نعمةً وبرا
والآن
هأنذا أموت كالفئران
والسحالى
وسط هذه الصحراوات الموحشة بلا أنيس
أو رفيق
بلا عزاء واحد
أو حتى أمل
أمشى وراء رجل آفل
ولا يعرف أين تقوده أقدامه
فى كل يوم يحدثنى عن أحلام كالمسامير
والقش
ماذا فعلت أنا
لكي أمشى وراءك فى كل هذه السكك
وعلام تبحث أنت طيلة كل هذه السنوات
أنت جديب ومملح
يا إبراهيم
خذ من خشخاش الذاكرة ما تروى به ظمأ نفسك
آه
من روحك الغليظة كالصخر
والحنطية مثل حميض
وقروحات
اجعل كل هذه الصحراوات تنبت لك المن
والسلوى
امش فوق كل هذه الأرض
إلى أن تنبت لك السماء عنباً وزهراً
سوف يجف حلقك
وتتورم قدماك
ولن تصل إلى شىء
أيها الخالد فى الوهم
هل تكون حياتنا يا إبراهيم بجحيم كل هذا السراب
الذى يتراءى من بعيد
اللعنة !!
لا
ليس هذا فحسب
لقد نسيتنى من أجل هاجر
تلك المرآه الـ ...
هاجر
جاريتي التى زوجتها لك
ورحت تلتصق بجلدها مثل علقة
وتعمل على جسدها مثل طاحونة
مخددة
وبكلابات
لم ينفصل جسدك عن جسدها قط
كأنما كانت – هى – البئر لك
وأنت النبع دائماً لجسدها العطشان
وتركتنى
نعم تركتنى فى قلب هذه الصحراوات إلى أن تعفنت
هاجر
أمتى المطيعة
وجاريتى الشفافة
لقد أعطاها لى الفرعون
ومنذ أن أعجب بسوسنات جسدى
ورأى أزهار بشرتى
وشعرى
ولمس بيديه المبصرتين فستقات نهدى
وشرب من حليب أنهارى
وراح يعمل فى مثل فرن
بآلته المجوفة
ووتره المشدود
كالصلب
ألم تقل له أننى أختك يا إبراهيم
وأنا فراشتك البرية
وناقتك الغراء
شمسك الخضراء أنا يا إبراهيم
وسقيفة نفسك
لماذا قبلت أن تقدمنى إليه كالذبيحة
ليشرب من خمر شفتى
وليرتوى من ماء صدرى
فى كل ليلة كان يركبنى مثل عربة مطهمة
وأنا أصهل تحت قدميه
مثل فراشة تجار
ألم تقل له أننى أختك يا إبراهيم
وأنا فرستك النبوية التى حملتها من هناك
من أرض آور
وعبر برارى الكنعانيين تبعتك
وأعطيتك نفسى مثل أرض بمواثيق
كنت لك الظل
والندى
كيف طاوعك قلبك يا إبراهيم
وكيف جرؤت على استحلال جسدى هكذا
وتركت أرضك
وبئرك
لفرعون مصر
يشرب منها كيف يشاء
ويزرعها وقتما يريد
لم فعلت ما فعلت يا شقيق نفسى
آه
لقد كان لى ملك مصر
وهذه الآنهار تجرى من تحتى
أكداس الذهب والفضة تتحرك بإشارة واحدة من يدى
ألف وصيفة ووصيفة تحت أمرى
وطوع بنانى
أصبحت عشيقة الفرعون
وأميرة نفسه المفضله
صار الفرعون كالخاتم بين إصبعى
وأنت
لم تكن تعبأ أو تهتم
كل ما كان يشغلك إبلك وأغنامك
حنطتك
ومحصولك الوافي من الشعير والنخل
ذهب مصر الذى سرقته لك
لتكدسه فى خزائنك
شاهدنى الفرعون وأنا أسبح هناك فى النهر
كنت مثل سمكة برية
وجسدى يلمع كالفضة
شفتاى تستطلعان الشمس
وشعر رأسى يسبح على الماء
مثل زهرة اللوتس
ساراى
لو شئت لجعلتك ملكة وإلهه لكل هذا الشعب
هكذا قال الفرعون لى يا إبراهيم
لو أردت لأجلستك إلى جوارى على العرش
وأطعمتك بيدى
من جرة مائى أسقيك
ومن خمرة أرضي أروى حدائقك باللبن والسكر
هذه الشمس التى تشرق
أنت
والنجوم التى تلتهب فى الليل لى
يا فضتى وذهبى
يا فراشتى البحرية
أبداً
لا توجد إمرأة فى كل أرض مصر تضاهيك أنت
إيتها المعجونة بأصابع الآلهه السومرية
وصلوات بابل المقدسة
يا أجمل بنات آور
من خلال شفتيك تنبجس أنهار خمر وعسل
على شراشف جسدك الفذ تنطلق مزامير بشهوة
وكمانات
وفى الليل تهتف فراشات بأغنياتك
يا أرجوحة القمر والشمس
الاقتراب منك جنة بأنهار من عسل مصفى
والابتعاد عنك
جحيم بأفاع
وضواري
حين ألمسك بيدى هاتين
يقف شعر رأسى على كالمسامير
وينتفض جذعى
مثل غابة من ليف
يا لك من طاغية
إذا أراك أهتف
لا أقدر على السكون أيتها الموجة
وإذ تبتعدين عنى ترتبك مفاصلي
وتتخلع عظام نفسى
وأقع فى الخلط
يا شفرة الجنون والنعمة
أنت أيتها الحورية
على عرش نفسى لم تجلس امرأة مثلك قط
لو شئت
لصنعت عرشك على الماء
وأجلستك على مراكب الشمس
بين مركبات فرعون
أيتها المزهرة أبداً بين النجوم
يا ابنه عشتار
ويا أخت جلجامش العظيم
لم يا رجلى الحبيب فعلت ما فعلت
كنت أحبك أنت
أيها الصحراوى المتلفح بالرمل
والعقبان
كنت أسرق من خزائن الفرعون وأعطيك أنت
من غلال مصر
كانت خزائنك دائماً ملأى
ومن قطعان الماشية أعطيتك فوق ما تريد
يا شقيق نفسى
من غنم الفرعون كثرت لك قطعانك
وأعطيتك المزيد
والمزيد
من أرض جاسان أقطعتك أجود الأرض
إلى أن أصبحت السيد الأجل
والرجل المطاع
وبالليل
كنت آتيك حفية لأتلصص عليك
ولأجلس تحت قدميك
كالنبتة
كنت أشتاق إلى حليب جسدك المر
يا إبراهيم
كما تشتاق كل هذه الصحراوات
إلى الندى
كنت رجلى وسيدى
فى رحلة السنوات الصعبة
والصحراوات المهلكة
كنت أدرك أن كل ذرة من جسدى
تنطبق على كل خلية من جسدك أنت
وفى الليل
كنت أناديك بأعلى صوتى
أيها الحبيب باللذات أين أنت
وما هو مكانك فنطلع إليك
أين هى شمسك لأشمر عن ساعدى
وأقطف خيوطها بيدى
ساعدنى أيها الأمير الصحراوى أنا أسيرة وعبدة
على أى صخرة تجلس أيها السماوى
مثل حبق
وعلى أية مزامير تعزف أغنياتك
شجرك يظلل على
يا غصن زيتونى الأخضر
ولا عزاء لى سوى الطلح
أين أنت
يا صانع الحب والنوى !!
حتى عندما كان الفرعون يقلبنى بين يديه كالعجينة
ويطوى جسدى تحت فخذيه
كالإسفنجة ، حتى
عندما كنت أتاوه من اللذة
وأصرخ بأعلى فمى
مثل فراشة ضالة
فوق أرض مراوغة
كانت روحى كل روحى ترفرف حولك أنت
أنت يا ثلتى ومجدى
كنت أنظر إليك فى سقف الغرفة مثل فراشة تحترق
وأنت تحدق فى بعينيك
العسليتين
الجهنميتين
وشفتيك المشقوقتين بالرماد
والرمل
كلما كان يدعك جسمى بأصابعه الخمس
وأتوجع من الرغبة
كنت أشعر بأصابعك تكلمنى
شفتك تلتف حول سرتى وتهبط إلى قاع روحى
كانت بطنى مثل لؤلؤة تلمع
وجسدى يتشمم رائحة جسدك كالصندل
وأنفاسك علامة على المداومة
ماذا فعلت بك يا رجلى الحبيب
لتفعل بى ما فعلت
قلت لى
إن الفرعون
سوف يمنحك أشجاراً
بدلاً من حدائقى الناشفه
سوف يزرع جسدك يا ساراى بالشعير
والحنطة بدلاً من الحسك
والشوك
أنا رجل بلا بذور
ولا فاكهة
أرض روحى خراب
ونفسى ملآنه تعبا
أعرف أنك سوف تثمرين كما تثمر الأرض الصالحة
أنا رجل معطوب
فقط تحتاجين أنت إلى الدفء
والكلأ
أرضك لينه وخصبة ولا تحتاج سوى بضع حنانات و قطرات
فى جرابى لم يعد هناك أي شئ
ولا حتي عشبة ناشفة
أنا قارة غارقة و بلا سموات أو حتى سحب
كافة قربى مثقوبة ومركونة على الطرق
ليس فى مقدورى أن أمنح جسدى ما يريد يا ساراى
طوال ستين سنة
وأنا أكدح حول جسمك مثل فلاح بابلى
بلا محاريث أو حتى أدوات صيد وقنص
كنت أعمل على بئر خربة
وساقية معطلة !!
ولم تكن بطنك تريد أن تنتفخ أبداً يا ساراى
أنا بئر جافة
وأنت صحراوات قاتلة
وعطشى !!
مطرى لم ينزل على صحراوتك قط
فلماذا لا يأخذك غيرى
لم لا يزرع بساتينك سواى
أنت
أيتها الأجمة
والدغل _
بفأسه
ومحراثه
بأدوات صيده
وقنصه
إن كان ذا يدين مدربتين
وعود صلب
يستطيع أن يشق تريتك الصخرية هذه
أن ينحت هذه القشرة الجافة التى تعلو وجه أرضك
وأنهارك
أن يغرس قمحه وكواكبه في نفس الوقت
فقط عليه
أن يفترعك بمحراثه القوى
ليحيى كل هذه الأرض
حتى تنتفخ التربة
ويخرج الحب والنوي
أرض جسمك التى تشققت
وكان أن فكرت فى إله الآلهه
فرعون مصر
وها أنذا يا سارايتى الجميله أعيش فوق هذه الأرض
كالملك
أخذت كفايتى وفوق ما أردت
وأنت
ترفلين فى الحرير والقز
متوجه تجلسين على عرشك وجسمك
كأسطورة
وحورية
ببضاعة مزجاة
وثروة
تذكرى يا ساراى أيام الجوع والموت
تذكرى تلك الصحراوات الملتهبة التى أتينا منها
ضائعين
ضالين
كانت الأرض تغلى تحت أقدامنا كالمراجل والمهل
وتلتهم سنواتنا الرثه
كالحبق
الصحراوات
التى كانت تنخل عظامنا كالمناخل
تذكرى
تذكرى
أيامنا التى أطلقنا فيها العنان للشهوة والحب
كانت أرضنا مالحة
ومياه آبارنا
جافة
وقائظة
أنت أعطيت جسدك وأيامك للفرعون
وأنا أعطيتك عرش مصر
تخلصنا من قسوة الرمل
ووعورة الزمن
تخلصنا من طائر العزلة اللعين
وسراب الصحراوات المر
تخلصنا من بندول القدر المكفهر
وأحلامنا الجافة
كالزلط
والحصى
وكما أصبحت سيداً ولى أرض
أصبحت أنت ملكة
بتواريخ
وترجمانات
ساراى
ماذا تريدين أبعد من ذلك
أى أحلام لك لم تتحقق يا ساراى
صورك
منحوته فوق معابد أور
وعلى بوابات طيبه
ومنف
لك يسجد كل من فوق هذه الأرض
باعتبارك ابنة الآلهة
وكهنة مصر
تحت إمرتك عجلات بدروع وألوية
من مدينة أون
وحتى قلب طيبه
تذكرى يا ساراى
أنك ما جئت من أرض أور
وسط الصحراوات المرعبة
والوحوش الفراسة
إلا من أجل أن أزرعك فى أرض مصر
أرض الفراعين
والسحر
بماذا نفعتنا كل آلهه آزر
وتماثيل كنعان
ونوارس نينوى
وزقورات بابل
ماذا أعطتنا أساطير جلجامش
وحانات سيدورى
آلهه السومريين
والبابلين العظام
بماذا نفعتنا عجائب نينوى
ذات الألواح
والكتابات المسمارية
هنا فى أرض مصر كأنما يولد العالم للمرة الأولى
كان من الممكن أن نظل هكذا إلى الأبد يا ساراى
عريانين
جائعين
بلا ثروة
أو مجد
الآن
كل هذه الأرض رهن إشارتك أنت
كهنة فرعون
ومعابد أون
وصوامع آمون
لك
أنت وحدك يقدمون الصلوات والأدعية
باسمك ترفع القرابين
وجهك على كل عملة
وصك
كل كاهن فى أون لا يفتتح صلاته إلا باسمك
أنت
أيتها النرجسة الفريدة
يا كنزى الحبيب
ويا لؤلؤة العالم
كل وصيفة لا تنال بركتها إلا إذا ركعت تحت قدميك
وقبلت أطراف أصابعك
ماذا تريدين بعد كل هذا من رجل عاجز
كهل
لا فعل لى أو قوة إلا الخرافات والسحر
أحياناً
ما يتراءى لى عالم غير هذا العالم
وأرض غير كل تلك الأرض
وسموات أخرى
غير كل تلك السموات
أنا أبحث عن روحى
وسط كل هذا الركام
والفوضى
كفى
كفى يا ساراى الجميلة
أنا ضائع بين آلهة آزر وآلهة المصريين
الأفكار تعمل في رأسي كالجواميس الهائجة
والجعارين
النطاطة
أنا الباحث عن شىء ولا أعرف ما هو
أفتش عن الحقيقة وراء كل هذه الظواهر
الظاهر لا يعنى الباطن أبداً
والباطن لا يكون شكل الظاهر كذلك
الحيرة تأكل روحى
والشك يملأ قلبى
أنا ضائع وأهوى فى الفراغ
لا يقين تحت قدمى لأمشى عليه
ربما
أعود ثانية إلى الصحراوات التى تمثل خيال الظل
وظهيرة المغترب
ترى
أين أنت الآن يا هاجر
هاجر التى لم أطأها سوى مرة واحدة فقط
وأخذت بطنها تنبعج
مثل الكمثرى
وتتقشر مثل تينة
إسحق
إسحق
ساعدنى يا بنى
لساعات فى الليل وأنا أجلس على فراشى
أقضم الفراغ مثل ثمرة حامضة
روحي تتفحم
ونفسى تتقشر كسرطان جلد
وثآليل
على العاصفة أتوكأ
وفى فمى لا تسكن سوى الضغينة
والمرارات
فى رأسى تدور مدن بطواحين
وتنتقل أفكار
وتتقلب جنازات
على باب خيمتى تنطفىء سموات بكواكب
وتزلزل أرض برواسي
وأعمدة
ثمة صلوات تختلط فى قارورة نفسى
وتملأ خراب
أيامى
كيف أضع السكين على رأسك أنت يا إسحق
لم هذا الحلم الذى يتكرر ويتكرر إلى ما لانهاية
أن أذبحك بسكين
أى شيطان يعبث بى
ويضللنى فى السكك
إسحق
يا زهرتى البرية
ويأكل تعب أيامى الغليظة
إسحق
كيف أرى دمك وهو يسير على الطرقات
وبالأودية يختلط
هل يمكن لدمك أن يتجلط تحت قدمى
كالأغربة
والوطاويط
ثمة ثعابين تزحف على أرض روحى
فوق منحنيات طائرة
ودروب منفكة
ووحوش بأنياب وأظافر
تزأر بضراوة
فى المناطق الأكثر نأياً لإنسانيتى المنسحقة
أرى أشجاراً تتقصف
لم أكن نائماً إذ ذاك
رأيت النجوم تهوى فى البئر
وتتعلق بعمود خيمتى
قمرى يسقط فى المحاق وشمسى تتكسر
إلى آلاف الشظايا
كلاباً تنهش عظم روحى الصخابة
ألف أسد يزأر على بعد شبر
من نفسى الضالة
ما هذا الذى أراه يقف متربعاً على قاع جمجمتى
هل أخطأت يا إسحق حين تركت أرض أور
وتهت فى البرية مثل ندم
بأنياب
وكلابات
أتكون هذه النهاية يا إسحق
أم لعنة آلهة أبى آزر
لماذا تركت ورائى كل شىء وهربت إلى الصحراء
عن أى شىء أفتش
وعلام أبحث وسط هذا الركام من الذكريات والقصص
أى هاجس شرير جعلنى أضيع فوق تلك الأرض
كلما أحاول النوم يا إسحق
يلمع النصل تحت جفنى كالوتر والقشة فوق الماء
أسمع صدى الموت
يرن
فى قاع حنجرتى
ألحس دمك بشفتى
وألمس صدى السنوات كالشفرة
أشباحك تطاردنى فوق مخداتى
كالقطط الشرسة
وأمسك بيدى سكينى مثل فأرة نادمة
وتتنطط
ثانية يلمع الصوت
اذبح إسحق
اذبح إسحق
هل يكون ذلك جزاء ما صنعت بإسماعيل أخيك
هاجر
فلذة كبدى وسقيفة روحى
أهى لعنة تلك المرأة تتساقط على
مثل طائر أعمى
لماذا تركت هاجر فى العراء هناك
فى أرض كنعان
بلا عائل واحد
أو حتي رفيق
لم فعلت ما فعلت وطاوعت أمك يا إسحق
أنا ورقة ساقطة
وغصن شجرة منكسر
أنا متاهة الرمل
ولا جذر لى
وأشم الوجع بأنيابى
أسند اليأس بقامتى لئلا يتراجع
وأطارد المتاهة مثل بقة
لم كل هذه الرؤيا الآن يا إسحق
وبعد أن كبرت
وعجزت
بعد أن رأيتك بأم رأسى
وتشممت أنفاسك التى تشبه ورقة الحياة
قل لى
ماذا أعمل هنا فى قلب هذه المتاهة الشريرة يا إسحق
عين واحدة تترصدنى
عين آزر
شمس واحدة تنطفىء تحت قدمى
شمس أمك
كلمة واحدة أحفظها عن ظهر قلب
الموت
شجرة واحدة أغرسها أمام شباك بيتى
الحرية
لم أملك فأساً واحدة لأعمل حطاباً عند أحد
ولم أشرب من جرة جيرانى قط
أين جوهرتك يا صحراء
أين كلماتك يا رمل
أين شوكتك يا جحيم
وأين غلبتك يا موت
أسأل لمَ تغرب الشمس كل يوم
ولمَ يشرق القمر كل ليلة
ألم يتعبا أبداً
ألم يتوقفا للحظة
لمَ تتوارى النجوم والأحلام خلف السحب والدجنة
كيفوبالليل
أتكوم أمام خيمتى كالنسانيس والبوم
بعمل يدى غرست وأكلت
وها أنذا فى شيخوختى لا أجد غير الرمل
والدم
أحياناً
كنت أقهقه مثل حشرة
وأتلوى على الرمل مثل قنفذ
أجفف أوجاعى بالضحك
والنسيان
إلى أين نحن ذاهبان يا إسحق
ألكل ذلك نهاية
وما هى نهاية القصة ؟؟
فى أرض أور
كانت هناك الخمر والنساء
كانت هناك الضحكات الرنانة
والأماسى التى تمتلىء باللذة
فى الأعالى ليس ثمت شىء
من الجالس هناك خلف كل هذه الأشياء
الشجر والرمل الجبال والأفلاك
الحياة والموت
الحشرات والحيات الطيور والأزهار
السحب والكواكب
كل شىء يذهب ليعود من جديد
ولا جديد تحت الشمس
وهنا
وفوق هذه الأرض
لا أجد سوى اليأس والموت
وفئران الحقل
فى أوقاتي الكثيرة
وحين كان يشقنى الضجر إلى نصفين
كنت أكلم الحجر والصخر
ولا يتردد فى حنجرتي سوى الشوك
وأزهار العصافات
حين نزلت من أرض أور إلى أرض مصر
ساومت
وساومت
عملت مهرجاً فى حاشية الفرعون
قدمت أمك وليمة لأعشاب البحر
أطعمت جسدها للكهنة
وكل أصحاب السلطة فى مصر
قلت لهم : هاكم خبزى فكلوه
وهذا زرعي فا حصدوه
حديقتي مشاع لكم
وجسدها
لكل راغب
لم فعلت ما فعلت يا إسحق
والآن انظر
ها انذا وفي نهاية الرحلة أري إني أذبحك
وبعد أن كبرت
واستويت
أأذبحك أنت يا إسحق
أى قدر شرير هذا الذى يتربص بي مثل لص
ويعبث بمصيرى مثل ورقة
و تتدحرج على الأرض
حلم واحد يتكرر كل ليلة
أمام عينى
فى يدى سكينى
وأنت ترقد تحت قدمى مثل نبتة
وأنا أحز رقبتك
مثل كبش
دمك يسيل على الأرض
كالبرك
والوحل
وأنت ابنى
فلذه كبدى
لا تفعل شيئاً أو تقاوم
ترقد مستسلماً لكل تلك القسوة اللا مبررة
وكل هذا الشر
لم أفعل أنا بيدي هاتين ما لم يفعله أحد من آبائي
لم كل هذا الشر الذى يسكن فى الدم
ويعشش على الأرض
مثل حوت بأنياب
ومخالب
ومن أجل أى شىء قطعت تلك الرحلة اللعينة
من قلب أور العاصية
إلى أرض كنعان الشريرة
بلا ربح واحد أمضى حياتى
خساراتى هائلة وبلا حد
لقد جئت فى الوقت الخطأ يا إسحق
وما جنيت أى شىء
الميلاد مثل الموت
والبداية تعنى النهاية دائماً
ولا جديد تحت كل هذه الشمس
باطل الأباطيل
الكل فى العتمة
والظلمة جاثية
شمس تجنح إلى الزوال
وأخرى تتأهب للطلوع
الليل نفس الليل
والنهار نفس النهار
لعبة واحدة ومتكررة إلى ما لا نهاية
أى هدف
وأى غاية لجهد الإنسان الضائع
تحت عجلة الموت
قبلى قرون مضت
وبعدنا
قرون أخرى سوف تأتى لتخضر من جديد
يا لها من مسرحية باليه ........
وخالية من الهدف
والهاوية تتربص
هل ثمة شيطان يتربص بى عند كل منحني
وتحت كل قنطرة
وجسد
يتلمظ
فى النهاية
لماذا روحي ضائقة يا إسحق
وتشعر بالسأم واليأس
أنا ما اخترت هذه الحياة بيدى
ولا جئت إلى هذا العالم بمحض إداردة منى
فقط
الحياة هى التى اقتادتنى يا بنى مثل كلب
كان من الممكن أن يكون أبى حداداً
فأكون حداداً بدورى
كان من الممكن أن يكون خزافاً
فأكون خزافاً بدورى
لمَ كتب على أن أكون أبن صانع آلهة
وتماثيل
لمَ تظهر هذه الصورة أمام عينى وتترسب فى المخيلة
أن أذبحك
كيفأسلمك إلى الموت يا إسحق
وأنت
لم تعرف عن العالم أى شىء
ولم تر العالم بعد
أنا ممزق يا أسحق
قلبى يتكسر مثل طبق من الخزف
إلى ألف قطعة
وقطعة
هاجر تموت فى الصحراء
ولا أعرف أين هى
ولا ما هو مصير إسماعيل ولدى البكر
ربما يكون الأن جثة
أو فى بطن ذئب
لمَ طاوعت ساراى أمك وفعلت بها ما فعلت
أتكون تلك النهاية يا إسحق
أم هى لعبة آلهة آزر
اهدأ
اهدأ يا أبى
فلكل شىء تحت السموات وقت
للحب وقت
وللموت وقت آخر
للضحك وقت
وللبكاء وقت آخر
للتذكر وقت
وللنسيان وقت آخر
الكل فى المتاهة
والهاوية تتربص بالعالم
أين غلبتك يا موت
أين شوكتك يا جحيم
متاهة إبراهيم ....بقلم محمد آدم مصر
Reviewed by مجلة نصوص إنسانية
on
18 فبراير
Rating:
ليست هناك تعليقات: