التانغو الأخيرُ على عنقِ الكمنجةِ المِغْنَاجِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين


- تسألُني بكلِّ ما أوتيتْ بهِ من ظنونٍ وتساؤُلاتٍ : لمَنْ تكتبُ ؟ هل تكتبُ لي أم إنكَ تكتبُ لغيري؟ هل تعرفُ قصائدُكَ ملامحي وتميزُ عطري بينَ روائحِ النساءِ ؟
- يربِكُني سؤالُها غيرُ المعتاد, فأتساءَلُ ملءَ حيرتي لربما تلكَ القصائدُ قد أشعلتْ نارَ الغيرةِ في جوانحِها , فرائحةُ الغيرةِ قويةٌ كرائحةِ بهاراتِ الشرقِ الأقصى وأنا أستطيعُ استنشاقَها مهما تناءَتْ المسافاتُ, أُجيبُها مستغرباً : أَلَمْ تري طيفَكِ يجوبُ كطفلٍ تائهٍ شوارعَ قصيدتِي , يشيرُ إليَّ بكلتا عينيهِ كلما جالستُ الإنتظارَ تحتَ زرقةِ السماءِ في محطاتِ القطارِ ؟ أَلم تريهِ يمورُ حولَ محاورِ الدقائقِ جيئةً وذهاباً بين الأسطرِ فيجعلُ الأزمنةَ مواقيت ذهولٍ وتبعثرٍ حدَّ الشتاتِ ؟ ألمْ تريهِ يعبرُ غيرَ مكلومٍ الأسلاكَ الشائكةَ عندَ حدودِ القصيدةِ إلى مواسمَ قطافٍ لن تأتيَ في الجانبِ الآخرِ من الخرافةِ ؟ فالحروفُ قد أُمِرَتْ أنْ تخفرَ أهدابَكِ من أشباحِ الليلِ وأنْ تُرَابطَ قاب فاصلتينِ من حدودِ شفتيكِ ..
- تقولُ لي وكأنَ سبعةُ عصافيرَ تسقطُ من فمها : كم أفسدتْ الدموعُ كحلي الحجازيَّ كلما اجتاحني مدُّ الكلماتِ فارتديتُ الحنينَ في الريحِ سحابةً ,هي الكلماتُ تزهرُ بي زنابقَ من بياضٍ حتى في خِضَمِّ خريفي , وتنطقُ باسمي في المهدِ فأنتبذُ خلوتي خجلاً .. يكفي للحروفِ أن تطوفَ حولَ قِبلةِ هذياني حتى تُنَقِّطَ الأوتارُ لحناً شجياً على أهدابِ الكمنجاتِ الحنونةِ فأصغرُ خريفينِ وغابةَ خيزرانٍ وساقيةً , وكأن هناكَ قبساً من نارٍ مقدسةٍ ينيرُ عتمَ فوضايَ كلما فاضَ العمرُ سيولَ ذكرى إلى صبوةٍ في خبايا الكلامِ ..
- أردُّ عليها : عذراءَ كانتْ أرضُ قصيدتي قبلَ أن تدوسي أنتِ تلكَ الأعشابَ الغضَّةَ النديَّةَ ومباسمَ الأزاهيرِ البريَّةِ فتَفُضي بكارةَ أحلامِ الفراشاتِ , لقد فَصَّلْتُ الكلامَ على مقاسِكِ معاطفَ لبداياتِ الشتاءِ كلما همى القطرُ وتدافعَ على زجاجِ النوافذِ المشروخةِ أقاصيصَ وومضاتِ رُؤى ..
- تردفُ قائلةً : بعينيها الجميلتينِ ترويني القصيدةُ حكاياتٍ مُمْرِعةً كما تروي الحكاءةُ العجوزُ بطولاتِها في زقاقِ القريةِ العتيقِ فينبتُ الأقحوانُ بينَ الشقوقِ في الجدارِ ويتسللُ الفجرُ إلى جدائلي قبلَ أن يُقَبِّلَ في طريقِهِ زهرَ الليمونِ فتنبتُ على وجنتيَّ قبلَ الأوانِ حقولُ القمحِ , ولأنَ كلَّ مواطرِ كانونَ لم تغسِلْ أحزاني كانتْ حروفُكَ تلامسَ بأكفٍ من حريرٍ تلكَ الجروحَ الغائرةَ في أعماقي والنازفةَ ألماً وغربةً مني وفِيَّ ..
- يشدني بريقٌ ساحرٌ لمعَ في عينيها فأُجيبُها : إعلمي يا غائبتي أن بيني وبينكِ مسافةَ طريقٍ تمتدُ بينَ وجعينِ عتيقينِ سيعبرُها سنونو مهاجرٍ إعتادَ الرحيلَ كلما قرعَ أيلولُ أجراسَهُ على خرائطِ التيهِ , وعندما يعودُ سأدعوكِ لرقصةِ تانغو أخيرةٍ أُذيِّلُ بها هزيعَ العمرِ , فأحمِلُكِ بكلِّ أناقةِ حضورِكِ كالغيماتِ كالنسماتِ كالكلماتِ مع رَمْحِ عطري الجموحِ ونسافرُ شراعينِ في أبديَّةِ اللاوعيِ , فتكُونينَ عندها كالأحمرِ القاني تسكنينَ أوردتي وكوجهِ أمي موءودةً في نبضِ أزلي , وكم أخافُ عليكِ وعليَّ من شيءٍ لم نتوقعْهُ ولم نحسبْ حسابَهُ , أخافُ أن تسرقَنا غفوةٌ فتصبحُ عيناكِ قصيتينِ عني اغتراباً عصيتينِ مني نوالاً , معلقتينِ وحيدتينِ على مشاجبِ المستحيلِ , وأنا لستُ بحاراً يتقنُ فنَ الملاحةِ لأبحثَ عنكِ في أرخبيلِ الشتاتِ ولستُ رحالةً لأبحثَ عنكِ في ذاكرةِ السريسِ والقصبِ والعرارِ , سأظلُ أناديكِ كلما غابَ وجهُكِ في الزحامِ : يا ابنةَ الريحِ ليتكِ ما غبتِ ، ليتكِ تسبقينَ المَطْرَةَ بهمسةٍ وقبلتينِ وكيسِ عواصفَ , ليتكِ تحضرينَ قبلما تندثرُ طريقُ النجومِ وينسى البيدرُ المهجورُ لغةَ الحمامِ وتوتةَ الدارِ ...
أَعدي لي القصيدةَ مزاميرَ للبعيدِ
وأرضاً من الشقيقِ تليقُ باللقاءِ ..
ومرقصاً يُوشِّي رقصتَنا الأخيرةَ
أنفاسَنا ونبضَ خُطانا بالحياءِ ..
فأنتِ الأنجمُ والكواكبُ
والشموسُ وثُرَيَّاتُ السماءِ ..
وأنتِ العقيقُ واللُّجَيْنُ
والفيروزُ ورخامُ البهاءِ ..
وأنتِ المزاميرُ والتراتيلُ
والتواشيحُ وياءاتُ النداءِ ..
وأنتِ المواعدُ والمشاويرُ
والمواسمُ وخَطَراتُ الشتاءِ ..
وأنتِ ارتباكُ المطرِ الطليعيِّ
وتأنقُ السُحُبِ الزرقاءِ ..
وأنتِ تَكَسِّرُ لاءاتِ الذهولِ
وبُحَّةُ البكاءِ ..
وأنتِ قِطَافُ الشجرِ المُذَهَّبِ
وأجملُ النساءِ ..
أعدي لي المدى منابرَ للنشيدِ
ومآذنَ سامقةً للرجاءِ ..
كي أناجيكِ من باحةِ قمرٍ خبا
مع قناديلِ المساء ..
وأُناديكِ من أمسي الذي ارتحلَ
مع أطيافِ الغرباءِ ..
فلا أسمعُ إلا عتمَ الصَّدى
ينغرز في ياقةِ الضياءِ ..
كيفَ لك أن تقتليني اغتراباً ؟
وتقولي : شاءَ القدرُ شاءَ ..
وأن تُطفئي الفنارَ الوضيءَ
وتحطمي أرصفةَ الميناءِ ؟ ..
وتَدَّعي وقرتْ أُذنايَ
فتضيعُ لثغةُ صوتي في الهواءِ ..
وأتساءَلُ
كيفَ لقصيدتي المُشَظّاةِ كالبلورِ
أن تولدَ من رحمِ الشقاءِ ؟..
وكيفَ لها أن تكرجَ كاللآلئ
على عنقِ أميرتي الشَّماءِ ؟ ..
آهٍ يا مدائنُ تغتالُ الأقمارَ والفصولَ
وتكفرُ بالأفعالِ والأسماءِ ..
تمزقُ النوتاتِ في حاناتِ المدينةِ
وتصلبُ أكابرَ العُشَّاقِ والشعراءِ ؟؟ ..
تجعلُ الضبابَ راعياً للنجومِ
ومليكاً على ممالكِ الفضاءِ ..
وأدعوكِ
تناثري سَكْبَ نبيذٍ يلغي الزمانَ
على غَرْغَرَةِ الأضواءِ ..
كي أَنْبَجِسَ أحدَ عشرَ حنيناً
من فوهةِ الفناءِ ..
تمايلي ميسَ نيلوفرَ يطوي المكانَ
على زُرقةِ الماءِ ..
كي يتسلقَ ناظري الوريقُ
ثَنَياتِ خصركِ في العراءِ ..
إِخْضَوْضِري حبقاً ونعناعاً
في عَتْقِ الصورِ الصفراءِ ...
كي أتدفقَ ذكرياتٍ نهريةً
فوقَ ضفافِكِ الخضراءِ ..
فأنا مملوءٌ بكِ حتى الثمالةِ
وأنا مُطَوَّقٌ بأطيافِكِ حدَّ العياءِ ..
التانغو الأخيرُ على عنقِ الكمنجةِ المِغْنَاجِ بقلم محمد صالح غنايم فلسطين Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 07 مارس Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.