الجنية و المارد الحكيم بقلم خديجة كحلول الجزائر


- " نحن نتعود بسرعة ..النسيان خرافة يا عزيزي, ندعي النسيان لنبدو أكثر قوة و استعدادا لمواصلة الحياة و الركض خلف ما نعجنه في أذهاننا لنطبخه في الواقع ..الواقع الهارب من أحلامنا المرقعة ! .. ألا توافقني ؟..أم أنك ستتفلسف كعادتك أيها المارد "
أطفأ سجارته و عدل جلسته ..
" من قال أنني أفند ما تقولينه أيتها الجنية الحكيمة ؟! .. كل شيء في هذا العالم لا يموت ..كل ما يذهب يعود في شكل اخر ..لا شيء ينتهي ..لا شيء يفني نهائيا ! " ..
كان يضع قبعة أشبه بقبعة رئيس القبائل الهندية ..أسمر البشرة مائلة للسواد ..لباسه برتقالي يتكون من قطعتين ..الأولى تلف جزئه الأعلى و تتدلى على بطنه و الثانية تلف جزئه الأسفل و تستر نحافته التي تعطيه هيبة أشبه بتلك التي كان يملكها ألماهاتما غاندي و وهو يشق طريقه نحو نشر السلام ..
قام من مكانه ووضع يديه خلف ظهره كدرويش تائه و أخذ يروح و يجيء ..
كانت تجلس على أريكة حمراء بالقرب من نافذة بستائر بيضاء تتلاعب بها نسمات الهواء المتدفق بهدوء ..بعيون واسعة يرسمها الكحل باتقان و تجاعيد أجاد الزمن رسمها على جبهتها الواسعة ..أمسكت طرف الستار و نظرت للسماء ..كان الجو هادئا دافئا ..يبدو العالم من النافذة كوجه ملائكي لأم تبتسم في وجه طفلها الأول ..
التفتت اليه و قالت :
" لست حكيمة كما تتوقع ..أملك فقط رأيا يتناسب مع متغيرات القدر ..أفكر كثيرا ..أتراجع كثيرا ..و أندفع كثيرا ..و عندما ترهقني " كثيرا " أغادرني و أحتجزني في فكرة ما ! "
ابتسم ساخرا و قال :
" كعادتك ..لازلت تهربين منك ! "
" ماذا تقصد ؟"
" أنت أيتها الجنية كلما وجدت نفسك تهربين عنها ..أنت لا تتحملين ايجاد روحك الجميلة ؟ ..أنت تخافين منك ..من كل شيء بك ! ..الخوف يقتل كل شيء يريد أن يتحرر منك ..حدسك جندي ارائك ..حدسك قوي لدرجة أنك تقرئين ما وراء الكلمات ..ما وراء الوجوه ..ما وراء النقاط ..ما وراء الظن يا عزيزتي ..يجب أن تكفي عن هذه الطريقة المرهقة ! "
" في رأيك ..ما هي الحكمة اذن ؟..وهل لها علاقة بالحدس ؟ "
" الحكمة هي أن نفهم بأرواحنا كل ما يحدث لنا ! ..العقل منطقي كثيرا و القلب عاطفي أكثر ..وحدها الروح من تجيد عقد صلح بين هذه الكتل المتنازعة داخلنا ..لكن الخوف, الالم , التردد, الوهم , الانهيار , التفكير, الندم...كل هذه الأشياء سترهق الروح يا عزيزتي ..ستطفأ توهجها ..ستبدو الروح شاحبة جدا حين يغرز بها العقل خنجر منطقه و تخنقها حبال القلب الباكي ! ..أنا واثق أنك تعلمين كل هذا..أنت تبحثين عن التفاصيل ..أنت لا تكفين عن البحث عن سر كل شيء ..عن كل شيء ..انت تقتلين نفسك بنفسك أيتها الجنية ! "
" و الحدس ؟"
" الحدس هو شعور الأرواح ببعضها البعض ..في الحدس تذوب بشريتنا و تمنح أرواحنا حق احساس حقيقي يخترق هالة كل نحبه أو نكرهه و أحيانا لا علاقة لنا به ..الحدس طاقة روحية تستطيع الاحساس بطريقة خارقة ..انه احدى عيون الحكمة !...بالحدس نبصر شيئا من الخلود ! ..شيء دقيق جدا أشبه بالخلايا التي لا نستطيع رؤيتها بالعين المجردة .."
تنهدت و قامت لتزيح الستائر عن النافذة ..تدفق نور الشمس داخل الغرفة ..ثم عاودت الالتفات و قالت :
" و الحب ؟ ..ما علاقته بالحكمة ؟"
" الحب ان ارتبط ببشريتنا سيألمنا ..و ان تعلق بالروح فقط سيحررنا ! ..الحب احدى عيون الحكمة أيضا, بالحب نرى العالم في أجمل صوره ..ان كل من يتألم لأنه أحب جاهل و الجاهل عقله مغلق و قلبه يهيم دون بوصلة ترشده..يجب أن نتعلم كيف نحب مهما تعددت ثقوب قلوبنا ..مهما احترقت ..يجب أن نتحرر من بشريتنا الضيقة ! .."
" لازلت كعادتك ..تجيد صيد العبارات لتكون واضحا ..واضحا بطريقة مدهشة ! .. أنا أحاول أن أكون واضحة مثلك لكنني أفشل ! .. هنا تكمن نقطة ضعف المرأة ..انها تخشى أن تضعف حين تريد الوضوح ! " ..
انعكست أشعة الشمس في عيونه الضيقة العميقة ..و ابتسم قائلا :
" كلا ..أنت مخطئة الان ..تجيد المرأة قراءة كل من حولها الا نفسها! ..تحترف فهم الاخرين و ان كانت عاطفية جدا تلتمس الأعذار للكل ..الا نفسها ..انها لا تخشى الضعف حين تريد الوضوح ..انها تخشى الانكسار, الخيبة, انها تخشى فقدان أو جرح نفسها المسجونة بها ..لذا هي من تخنق نفسها بيديها ..انها تصنع القوة من ضعفها ...لذا هي في حاجة لمن ينقذ نفسها منها ان فهمها و عرفها حق المعرفة ..المعرفة التي تمكنه من لمس جوهرها الدفين ..جوهرها الروحي الذي لا يراه أحد الا من أحبها حقا ! "
اتسعت عيناها و ابتسمت ثانية ثم قالت :
" تحليل حكيم محنك .. لازلت مدهشا كعادتك ..مدهش جدا "
الجنية و المارد الحكيم بقلم خديجة كحلول الجزائر Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 20 فبراير Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.