الرّجُلُ الفَراشَةُ بقلم مصطفى الحناني المغرب



لقبوه بالرجل الفراشة .. الرجل الغامض جدا كعاصفة رملية مفاجئة ، ينظر إلى وجوه زملائه السجناء ، يتفحصها بدقة كطبيب عيون ، ينفث دخان سيجارته الملفوفة داخل صدره ، ولا ينبس ببنت شفة يسمع صوت المسؤول الكبير عن الحراسة وهو يصرّخ :
" التدخين هنا ممنوع ، فمن ضبط وبحوزته سجائر ، سيحرم من حصته اليومية من العدس ، وكسرة الخبز ، لمدة أسبوع كامل و سيعزل في زنزانة انفرادية ..."
يتهكم في قرارة نفسه من كل هذه الأوامر ، ويرسل زفرة قوية ، يتبعها ببصق عنيف على الجدار المقابل له بالممر الضيق لباحة السجن ، يغيب للحظة كأنّه في كابوس ، تعاوده كل الأحداث التي رآها بأم عينيه خلال ذلك اليوم الطويل جدا من المظاهرات الجماهيرية الغاضبة ، الحناجر المطالبة بالكرامة أولا ، و قبل أي شيء آخر .....
ظلّ يشعر بصداع شديد ، وهو يستمع لصوت الرصاص الحي ، الذي أطلقه الجيش الوطني على مواطنيه العزّل ، لا لشيء سوى لأنهم صرخوا في وجه الظلم ، والقهر و المعاناة من الاستعباد ... كان يحس ، وكأن رأسه قنبلة يدوية تفور قبل الإنفجار ، يمسكها بكلتا يديه ، يسترجع وجوه رفاقه الذين كانوا معه في المظاهرات ، ولم يراهم بمراكز التحقيقات الأولية ، التي دامت أزيد من ثلاثة أسابيع ، لا إسم منهم أشير إليه خلال التحقيقات ، وقتها كان يظن إنه مقلب من طرف البوليس السياسي ، لذلك التزم الصمت ، والتزم الصمت أيضا عندما سألوه :
ما هو موقفك مما جرى بالمظاهرات ؟ 
من هم رفاقك بالتنظيم ؟ 
وما هي نواياكم السياسية ؟
فجأة يعود إليه وعيه ، وعرق بارد يتصبب من كل مسام جسده ، عندما فتح عينيه ، رأى حذاءًا عسكريا بمقربة قدميه ، ثم رفعهما من الأسفل إلى الأعلى ؛ ليفاجئه العسكري سائلا :
ماهذا الوشم الغريب على صدرك يا هذا ... ؟
لم يجب كعادته ، حملق بعينيه الضيقتين وشرارة الحنق ، منهما موجهة كرصاصة منطلقة من فوهة بندقية ، لوجه الجندي الذي مايزال واقفا ينتظر منه جوابا ، بعد برهة ركله جندي الحراسة بقوة على ساقه ، ركلا أشعره بألم شديد ، فاشتد غضبه ، وهو ما يزال يحملق في عيني الجندي ، الذي شعر بأن الرجل لا يريد أن يستسلم ، فاستدار عائدا من حيث جاء ...
استغرب زملاؤه المساجين أيضا ردة فعله ، خاصة وإنه نحيف الجسم ، ولا يبدو عليه إنه صاحب شجارات ، لكنه كان غامضا ، يخفي سرًّا ما بداخله ، هذا السر ، هو ما حير الجميع بمن فيهم حراس المعتقل السري هذا ، والذي يبدو وكأنه في جزيرة باردة معزولة عن الكون ....
في الليل كان أحد المساجين يرتل ما تيسر من القرآن الكريم ، استحب الرجل الفراشة ذلك هو الذي لا يُؤْمِن بالغيبيات ، ولم يحفظ آية واحدة من أي كتاب سماوي ، لكنه يحفظ أدبيات الماركسية اللينينة عن ظهر قلب ، وقد فبركوا له ملفا مفصلا من التهم الصورية الجاهزة ...
في إحدى الليالي الباردة جدا بالمعتقل ، كان الصمت الرهيب يخيم على كل زواياه ، وكانت المرة الأولى التي سيسمع فيها السجناء نبرة صوت صاحبنا - الرجل الفراشة - حين قال مطالبا السجين المقرئ :
أينك ...؟؟ يا أنت الذي كان يشنف مسامعنا بتلاوة القرآن الكريم ...؟؟
ليأتيه صوت سجين آخر قائلا بحسرة وألم :
إن أحمد يا هذا قد مات ، بسبب مرض التيفويد كما قال لنا بعض حراس المعتقل ، وقد دفنوه اليوم صباحا بباحة الإستراحة ...
تألم صاحبنا كثيرا ، واغرورقت عيناه بدموع مالحة كزبد البحر الأبيض المتوسط ، وأحس بقشعريرة حمى باردة تسري في جسده النحيف
قال للسجين :
" إنَّا لله وإنا إليه راجعون لروحه الرحمة والسكينة ... "
مضى أسبوع ، بدت خلاله الليالي طويلة جدا ، ولكي يملأ الفراغ الذي سببه له موت السجين أحمد ، قرر أن يكتب يومياته قبل الإعتقال وخلاله ، 
لكنه لا يتوفر على أوراق وقلم حبر للكتابة ...
ذات يوم وهو مع بعض السجناء ، في باحة المعتقل ، انتبه إلى إنّ مكتب مدير السجن مفتوح ، ولا أحد يحرسه ، فقرر أن يغامر ويدخل المكتب ، لتأميم بعض الأوراق ، و بعض أقلام الحبر الجاف فيه ...
كان مترددا ، خوفا من رميه من دون حصة طعام لمدة أسبوع بالزنزانة الإنفرادية ، والتي لم تكن سوى عبارة عن صندوق حديدي صدئ بمساحة متر ونصف على متر وثمانين سنتمر ، لكنه قال في نفسه :
عموما أنا في حاجة لأوراق ، وأقلام حتى أخفف من قساوة هذه الليالي اللعينة بالزنزانة ، ولا فرق بين زنزانتي و" الكاشو " غير الحرمان من حصة الطعام ، وأي طعام ذاك ، حبات قليلة من العدس ، أو الفاصوليا ببحيرة من ماء آسن ..!
دخل صاحبنا خلسة المكتب غير المحروس الفارغ من سيده ، وبسرعة أخذ حزمة من الأوراق البيضاء ، ومجموعة من الأقلام ، ودسها في تبانه المتسخ ، خارجا بحيطة شديدة ، وقد اصفرت ملامح وجهه ، لم يعد إلى أصدقائه ، بل عبر مباشرة إلى الزنزانة ، خبأ ما سرقه تحت البطانية العسكرية الوحيدة التي كان يفترشها بزنزانته ...
قبل العودة إلى مكانه ، مر في اتجاه مرحاض المعتقل ، الذي لم يكن إلاّ عبارة عن حفرة صغيرة فوق مطمورة أرضية .. أحس بسهال شديد ، ربما نتيجة الخوف من ضبطه وهو بداخل مكتب المدير ، فلربما كانت العقوبة أكثر من رميه داخل الزنزانة الإنفرادية ...
بعد ذلك التحق بباقي السجناء ، الذين كان معضهم يلعب " ضاما " ( Le jeu de Dame ) ، أخذ مكانه بالقرب منهم ، وغاب ذهنيا ، وهو يتذكر " حبيبة " ، رفيقة النضال ، التي كانت سنده أيام المظاهرات وقبلها أيضا ، فقد كانت تساعده ماديا كثيرا ، هو الشاب الفقير وقتها القادم من تخوم إحدى القرى المنسية من مغرب الجنوب الشرقي ، قرية صغيرة ، اسمها " بني - تجيت " ....
حار الرجل الفراشة ، فكلما خلى ليلا إلى نفسه ، ليكتب مدخلا لقصة عشقه ، مزقها تمزيقا ومضغ ما كتبه ، لكي لا يضبط حراس السجن دليلا على دخوله مكتب المدير ...
وكلما خلا لنفسه عاودته هذه النوايا اللعينة ، حتى إن رأسه أصبحت ثقيلة عليه ، وصار هو لا يتحملها لدرجة الكره ، فكم من مرة ضربها بقوة على جدران زنزانته الشبيهة بالقبر ...
مات ، ولم تخرج يومياته للناس ... مات ولم يعرف الناس إن الرجل الفراشة كان لسان حالهم داخل سجن كبير اسمه الوطن .......
الرّجُلُ الفَراشَةُ بقلم مصطفى الحناني المغرب Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 02 مايو Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.