قراءة الأستاذ: عبد الوهاب الملوح/ تونس، لنص: رشيدة المراسي/ تونس



النص: لغة الحجر/ رشيدة المراسي.

لغة الحجر
أكتب أشعارا كثيرة
وأسمّيها بأسماء خطاياي
أتفوّق على قطّتي في إنجاب المواليد
وأحب أن أسمّي مولود آذار باسمها
أكتب أشعارا كثيرة
بعدد حروف الصمت في بحر الذنوب الغفيرة
أسمي الذنب طفلة، فأربّيه بعناية حتى يكبر،
وحين يبلغ سن الرشد
تكبر قصائد الطهر والفضيلة
أكتب أشعارا كثيرة وحزينة
للراهبة التي نقضت العهد
سجن الله بالغواية
والشيخ الذي غيّر مجرى الحلول
وسجن الله في الجبّة
أكتب عن الخذلان لغة العصر
وأسمي الخيبات بأسماء مستعارة
حتى لا تحتفل بأعياد ميلادها
وحتّى لا تخلّد ذكراها
بكل نصّ أكتبه، أحطّم صنما
كان يعود بي دهرا إلى الوراء
وأحجر بسبابتي
على تاريخ الشقاء والأشقياء
بكل نص أسجل حضوري
وأحطّم كلّ توابيت الغياب والعزاء
أنسف كل النوتات العاهرة
التي سقطت سهوا على إيقاع أيامي وأحلامي
وأكنّس أقدام المزاجيين وتاريخ البركنسون
والتجار والمرابين والدلاّلين في سوق النخاسة
لأبدأ تاريخ التدوين كل يوم من جديد
وأقيم عهد تاريخ النصوص المقدسّة
الحرف الذي يصعد على كفّي دون أن
يعانق روحه هو في عرفي ابن ضال
الشعر حجر الله الكريم
ولا يكتبه غير النبلاء
وهذا ليس عصر الأنبياء
هذا زمن كل ما يمكن أن يقال عنه
وكل ما نكتبه إيغال في التشبيه والإستعارة
مازلت أكتب أشعارا كثيرة
وأسميها بأسماء كل بلاد حزينة
أقمت فيها وخرجت منها
وعلى حافة قلبي ندبة وحدبة
الأصدقاء الذين حولهم المخبر
قسرا إلى جواسيس و أعداء
فخانوا نبيّات الله وخانوا الأولياء
لعنة الدول الطائفية الجوّالةi
في حارات البلاد العربية
ولعبة صكوك الغفران وقصة عبور الصراط
والوردة المحتجزة على بوابة سمّ الخياط
أكتب كثيرا عن الكوكب الذي اعترض فراشتي
ذات جولة في سماء الرب
وحوّل حياتها إلى جحيم ذاك كان كوكب زحل
وأحب أن أقيم له مراسم التأبين
في بداية كل سنة ميلادية تيمّنا بالطقوس الهندية
كل نص منّي وفي ّ يقف على قامة الجرح،
يطوي آلامه ويمسح من عينيه ذاكرة الأحزان
يمضي وحيدا في أرض ليست أرضه
وسماء تحوّلت إلى مسرح لقرع الطبول
نصوصي طفلة لا تعرف الثأر ولا القصاص
ولا تجيد غير اللعب بالهواء الطلق
كتبت أشعارا كثيرة وكثيرة
ولكنها جميعا كانت احتفاء بذاكرة الحجر
اليوم أتعلم الكتابة بلغة أزلية نقشا على صدر الحجر
حتى لا تفنى ذاكرة هذا العصر
فلا ثقة لي في غير الحجر
من جبال الرماد
أخرج بيضاء من غير سوء
أنا ابنة الحجر
سلاما سلاما لقلب الحجر
حجر حجر
...
القراءة للأستاذ عبد الوهاب الملوح/ تونس
ما ان تأخذ القصيدة في التشكل حتى تشرع في البحث عن صيغ الاكتمال يفتحها الشاعر ورشة من طوابق متعددة يختبر فيها ما يمتلكه من أدوات حريصا على أن يجعلها تتظافر فيما بينها من أجل بلوغ مراق فنية من شأنها أن تعمق السؤال الجمالي والذي هو أحد أركان الوجود ان لم يكن جوهره الأساسي، وتظل هذه الورشة مفتوحة على أكثر من جهة حين تتحول موضوعا لذاتها؛ حين تتحول القصيدة موضوعا للقصيدة، وفق هذا التوجه تفتح رشيدة المراسي ورشتها وتمنح للقصيدة ان تتشكل دون أن تكتمل.. في هذا العمل ليس هناك شاعر بالاسم وليس هناك قصيدة بالضرورة، فالشاعرة تتجرأ على فتح أبواب مغلقة لغرف ليست موجودة او غرف تم غلقها وكما لو ان التابو ليس الله والجنس والسلطة ولكنه بالأساس كيف يمكن الحديث عن الشعر بالشعر الذي هو عند الإنسان اول الكلمة وفق التعريف الديني الأول، يعمد هذاالنص في معجمه اللغوي الى الهتك من كل ما هو مقدس لغوي في المدونة الشعرية فيذهب إلى التعلية من مركبات ذات أبعاد دنسة او هي بالأحرى نجسة من قبيل :
"الراهبة التي نقضت العهد"
"سجن الله في جبة"
"خانوا نبيات الله"
"وسماء تحولت إلى مسرح لقرع االطبول"
تعمق الشاعرة بهذي التراكيب التي هي في الظاهر نابية لا تستجيب للايقاع الشعرب المعتاد . اننا هنا بصدد تشكيل شعرية مخالفة للذوق المعتاد بايقاعية مخالفة ايضا للريتم المألوف عند سماعه ذلك أن الشعرية الحديثة لا تستوجب السماع بقدر ما تتطلب القراءة فالقصيدة الحديثة لا تتكيء على الموسيقى والموسيقى جزئية من الإيقاع وهو ما تفطنت له الشاعرة في قصيدتها هذه حيث تجنبت ما له إشارة إلى جرسية خارجية وعولت على تخليق إيقاع داخلي هو في الحقيقة ينبني بحسب تفاعل القاريء مع تركيباتها التخييلية، لقد عمدت الشاعرة إلى كتابة قصيدة حوارية من خلال صوت واحد متفرد ولئن بدا هذا الصوت هو الأنا المتكلم الا انه صوت القصيدة فالضمير هو ما تحدثت عنه في مقال سابق " الضمير اللقيط" ولئن بدا انه منسوب إلى جنس بعينه هو الذي لا اب له ولا ام غير هذي القصيدة التي هي بدورها مجرد ورشة فتحها الشاعر لاختبار إمكانياته الفنية فبقدر ما تؤكد الشاعرة هنا عجز الشاعر عن الإمساك باللغة من خلال تأويل مجازي لعبارة لغة الحجر التي سبق وأن أتى بها الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل :
ما أطيب العيش لو ان الفتى حجر…..تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
ليعمق محمود درويش السؤال :.
يا ليتني حجر أكلما شردت عينان
شردني هذا السحاب.
لقد أدركت صاحبة هذا النص وعي الحجر بما قاله الشعراء من الجاهليين وصولا إلى محمود درويش ولذلك ارسلت سلاما الى قلب الحجر ولئن كانت خاتمة النص سلاما غير أن متنه كان بحثا بمعنى الحفر في أهمية القول الشعري فالشاعرة هنا وفي هذا النص ونصوص أخرى متعددة مسكونة بهاجس كتابة الميتا شعري والقصيدة التي تبحث عن نفسها من خلال القصيدة ولا بد أن اعترف ان رشيدة المراسي من الشاعرات القليلات اللواتي كرسن جهودهن للبحث عن ماهية الشعر من خلال كتابة الشعر ومطاردة إيقاع الشعر عبر ترويض انفسهن على كتابة القصيدة وقلة من فعلوا ذلك من مثل هنري ميشو او هنري ميشونيك او عبد اللطيف اللعيبي.. فهذا النص يخلو تماما من اي انفعال عاطفي بل هو براء من اي انفعال فهي على قدر كبير من الوعي ان ما يفسد الشعر هو الانفعال الزائد والحماس العاطفي المشبوه ؛ وليس هناك أي تواطؤ ببن الشاعرة واللغة بل ثمت ما اسميه شعرية الحياد التي هي شعرية غير الممكن لقد استطاعت رشيدة المراسي ان تتخلص من كل رواسب الشعر القديمة لتقدم نموذجا مختلفا للشعرية المتفلتة شعرية غير متعاطفة مع الشعر المألوف غير متكالبة للبحث عن متلق.

قراءة الأستاذ: عبد الوهاب الملوح/ تونس، لنص: رشيدة المراسي/ تونس Reviewed by مجلة نصوص إنسانية on 12 سبتمبر Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

يتم التشغيل بواسطة Blogger.